قراءة في تجربة (رسالة الإسلام) 2 - د.حسن سلهب

في أعقاب تأسيس جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية في مصر عام 1947م، وفي اطار تحقيق أهداف هذه الجماعة في التعارف والتفاعل بين المسلمين، تقرَّر اصدار مجلة فصلية، تُعنى بالفكر والفقه الإسلامي، وفق مذاهب السنَّة والشيعة، وذلك عن دار التقريب في القاهرة، ابتداءً من ربيع الأول عام 1368هـ، الموافق لشهر كانون الثاني عام 1949م.
ان فكرة المجلَّة تأتي في سياق الترجمة الفعلية لقضية التقريب، وعلى الرغم من وجود فعاليات أخرى لهذه الجماعة، على مستوى النشر واللقاءات، والنَّدوات، وغير ذلك، الا ان هذه المجلة شكَّلت الانجاز الأكثر حيويةً في تاريخ الجماعة، ولا نُبالغ اذا قلنا ان الكثير من سمات وملامح هذه الجماعة، برزت على صفحات هذه المجلة، بل ان الكثيرين ممن عرفوا الجماعة، أو اهتمُّوا بمتابعة أخبارها وانجازاتها، انَّما تمَّ لهم ذلك، عبر هذه المجلة، وبواسطة المقالات التي نُشرت على صفحاتها.من الواضح ان القيِّمين على هذه المجلَّة، وفي مقدِّمتهم الشيخ محمد تقي القمِّي، والشيخ محمد المدني، ومحمد على علوية، والشيخ عبد المجيد سليم، كانوا يهدفون الى كل ما يسهم في تقريب النُّخب الإسلامية بعضها من بعضها الآخر، وبالتالي توحيد الصفوف.من هنا كان السعي حثيثاً لنشر مقالات تتصل بخصوصيات المذاهب التي من شأنها توضيح الصورة لكل مذهب عند الآخرين، من دون ان تثير حساسيتها أو حفيظتها، فضلاً عن خوض ما يشبه النقاش الهادئ، أو النقد الرصين لمجموعة من الأفكار أو الأحكام، الخاصة بكل مذهب.ولم يقتصر محتوى الأعداد على المقالات المذهبية، بل تعدَّاها الى المقالات الأدبية والعلمية واللغوية والتاريخية، أو الفكرية العامة، وعلى الرغم من أهمية النوع الأول من هذه المقالات، الا ان النوع الثاني لم يكن أقل حجماً منها، وفي كثيرٍ من الأحيان تجاوز نسبة النصف في جميع الأعداد.
ان تجربة النشر بهذه الطريقة كانت جديدة على الجميع، كما كانت فكرة التقريب جديدة عندهم، ويستطيع المدقِّق في الموضوعات المطروحة ملاحظة مستوى الحرص على الخوض في الأفكار الخاصة جداً بكل مذهب.
لقد كان التوجُّه الأساس اصدار أربعة أعداد في السنة الأولى، ثم زيادة الأعداد الى عشرة في السنة الثانية، لكن تجربة العام الأول، وحرص الأكثرية على الطابع العلمي للمجلة، وربما تحفيفاً للأعباء المالية، تمَّ التراجع عن هذه الزيادة، واستقرَّ الأمر على الاستمرار في الاصدار الفصلي الرُّبع السنوي لكل عدد، وهذا ما حدث بشكل منتظم لغاية بداية السنة الثانية عشرة من تاريخ المجلة، أي على مدى أربعة وأربعين عدداً من أعدادها الأولى، ثم بدأ الاضطراب في توالي الأعداد..ثم توقَّفت المجلة عن الصدور، قرابة خمس سنوات، قبل ان يصدر العدد 59 في سبتمبر 1969م، وأعقب ذلك توقفٌ آخر لثلاث سنوات أيضاً، قبل صدور العدد الأخير رقم 60 في أكتوبر من العام 1972م، حيث بلغت المجلة نهاية المطاف وتوقفت عن الصدور.
لقد اقترن بدء الاضطراب في صدور المجلة بأحداث سياسية عامة جرت في مصر، من بينها انهيار الوحدة بين مصر وسورية، وتغيُّر الكثير من المعطيات الدولية في اتجاه المزيد من الاصطفاف في المحاور، وبالتالي الخضوع لمنطق الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق.
وجاء التوقُّف عن الصدور لمدة خمس سنوات في أعقاب وفاة الشيخ محمود شلتوت، الداعم الأَبرز لأنشطة التقريب في تلك الفترة، وحرب 1967م وتداعياتها المأساوية على مصر، ثم جاء التوقف الثاني بين عامي 1969 و1972م، موحياً بالمزيد من التغيُّر في المشهد السياسي العام في البلاد.أما التوقّف الثالث والنهائي بعد أكتوبر 1972، فقد كان مؤشراً على دخول مصر مرحلة سياسية جديدة بالكامل، لم يعد معها مجال لأنشطة التقريب، حيث تدنَّى الاهتمام بالمشاريع الوحدوية، قبل ان يغيب تماماً عن السياسات العامة في مصر، وفي معظم دول المنطقة العربية والإسلامية، بعد وقت قريب.
لا نريد مما تقدَّم حصر الأسباب في الأوضاع السياسية العامة، على أهميتها ودورها الحاسم، ذلك أنه بالاضافة الى هذه الأوضاع، فقد خسرت المجلة معظم روَّادها الأوائل، ولم يبق منهم سوى الشيخ القمِّي الذي لم يعد بمقدروه الوقوف، بشكل منفرد، أمام المتطلبات الصعبة للمرحلة الجديدة...يتبع.