خطبة الجمعة ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية ـ فضل الله الفقيه المجدد


ـ (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ... إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ، قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)يس:20-27.
ـ بهذه الروح الرسالية انطلق هذا النموذج الإنساني في تحمل مسئوليته تجاه ربه ومجتمعه، بكل عزيمة وإصرار وعطاء، ولم يثنه عن ذلك صدود القوم عن الاستجابة لكلامه، كما لم يُعِر أهمية للخسائر التي سيتكبدها على مستوى الذات، مادام الأمر مربحاً على مستوى العلاقة مع الله سبحانه والمصير في الآخرة، ولذا استمر حتى الرمق الأخير، وهدأ جسدُه بموته، ولكن روحَه ما زالت في عنفوانها، وقلبه ما زال متعلقاً بمجتمعه المستكبر على الحق، فأطلق تمنياته الأخيرة التي لا ترتبط بذاته ـ وقد حاز على رضوان الله ـ بل بقيت روحه متعطشة لهداية قومه الذين لربما كانوا هم من قتلوه ظلماً.. (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).
ـ وكلما تلوت هذه الآيات المباركة تمثّلت الفقيه الراحل والمفكر الإسلامي الكبير السيد محمد حسين فضل الله الذي نعيش الذكرى الأولى لرحيله، وذلك في علاقته بالله سبحانه والتي من خلالها كان يرسم منهجه في الحياة ويستمد قوته في العطاء، وفي روحيته العالية التي عرفه بها كل من عايشه أو تعامل معه عن قرب، وفي عطائه الذي لم يهدأ حتى وهو على فراش المرض، لأنه كان عطاءً خالصاً لله سبحانه ومن أجل الناس الذين كان يعاني بمعاناتهم،
ويعيش آمالهم، ويعمل من أجل أن يأخذ بأيديهم ما أمكن.
ـ ولقد أعاد الراحل فضل الله إلى المشهد العام في عالمنا الإسلامي دور العالِم الموسوعي والفقيه الرسالي الحركي وذلك من خلال وعيه بالتراث وبالتاريخ وبالدين، ومن خلال متابعاته الدائمة والقريبة لحركة الواقع في الحياة. ولذا كان حريصاً على أن يتابع الحركة الثقافية عن قرب، وأن يقدّم الإسلام بلغة العصر.. كتب أحدهم في تأبينه أنني كنت محتاراً في استيعاب لماذا خلق الله الإنسان، والمراد من (إلا ليعبدون) فسألت السيد فأجاب بلغة بسيطة: نعم، ليعبدون.. لقد وهب الله الحياة للإنسان لكي يبث الإنسانُ الحياةَ فيما حوله!
ـ ولذا كان ينبهر به من كان يجلس معه، ينبهر برحابة صدره، وبسعة علمه، وبلغته التي تتواءم مع من يجالسه.. فلاحظ ما كتبه الصحفي الأمريكي داعية حقوق الإنسان فرانكلين لامب الذي كان يتواجد في نفس المستشفى لحظة وفاة السيد: (قبل وفاته بأقل من أسبوعين خالف نصائح أطبائه مغادراً فراشه لمقابلة مجموعة من الأميركيين من واشنطن وحضّهم على المبادئ التي تأسست عليها بلادهم.. وعلى إنهاء الاحتلالات في المنطقة.. لقد كان رجلاً رائعاً في حنوّه وتواضعه وتواصله.. ولم يكن ضميره وتقواه يسمحان له بالبقاء حيادياً ما دام المحرومون مضطهدين ولا صوت لهم.. لقد وُضع فضل الله على لائحة الإرهابيين الأميركية إلا أنه رفض كل الرشاوى والإغراءات التي قدمتها واشنطن بما فيها محوه من قائمة الإرهبيين إذا ما اتّبع رغبات الملوك وأوقف دعمه للمقاومة الوطنية اللبنانية، لقد علّق السيد لقب الإرهابي كوسام على صدره فيما كانت أعماله الخيّرة تسم أولئك الذين وضعوا هذه القائمة بالجبن
والعار، لتخلّيهم عن المبادئ الأميركية المؤسسة وتوفيرهم الغطاء السياسي للصهاينة الذين اغتصبوا فلسطين).
ـ ولم يركن المرجع الراحل فضل الله ـ على المستوى الفقهي والفكري ـ إلى جهود من سبقه بحيث يعيش التجديد في فهم القرآن وفي المعارف الإسلامية والتشريعات الفقهية فقط في فلك مَن تقدّموا عليه، ممن قدّموا للإنسانية ما قدّموا مأجورين بإذن الله تعالى، لأنه كان يعتبر أن طبيعة الحياة تفرض التجديد لا بمعنى التمرد على الأصول والأسس، بل بمعنى إعادة قراءة التراث من خلال معطيات الواقع والتطور الفكري الإنساني.. ولذا تميّز بتحرره في فتاواه حتى عن الإجماعات التي لم تبلغ مستوى الإلزام في الأخذ بها، مادام الدليل قائماً على ما هو مخالف لها.. بينما يتردد آخرون عن مخالفة أساتذتهم في الرأي، أو في مخالفة ما هو مشهور الفقهاء.
ـ وإذا كان البعض قد عاب عليه ذلك، فإن الكثيرين ممن يعانون أو يعايشون معاناة الناس في التعامل مع الحياة في صورتها المنفتحة اليوم، على الصُّعُد المختلفة، يدركون أهمية جهوده التجديدية في تقديم الفقه الإسلامي المنبثق في أصالته من القرآن والسنة، والمتناغم مع مستجدات العصر، بما تشرق معه صورة هذه التشريعات، ويرفع من خلالها الحرج عن الناس في تعاطيهم مع مناحي الحياة المختلفة.
ـ ولم يأتِ ذلك من فراغ، كما لم ينطلق من خلال ترف بحثي في قضايا قد لا تكون لها تطبيقات عملية خارجية، بل جاء من خلال إحساسه بمسئوليته الرسالية ومن موقعه المرجعي الذي يحتّم عليه أن يقدّم الفقه الإسلامي:
1. لا لتعقيد حياة الناس، بل من أجل أن يبعث فيهم الحياة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) الأنفال:24، فالأحكام ليست هي الغاية، والعبادات ليست هي المرادة في ذاتها كي يستغرق فيها الإنسان آلياً، فيتمسك بجسدها ويقتل روحها، بل الهدف هو تحقيق الحياة الطيبة على المستوى الفردي والاجتماعي والأخروي، وعلى الفقيه أن يأخذ ذلك في الحسبان وهو يستنبط الأحكام. وقد أعجبتني التفاتة الأستاذ جاسم بودي وهو يكتب في تأبين السيد: (نظر كثيرون إلى الفتاوى التي كان يطلقها من منظور خاص، يؤيد ويعارضض، يوافق ويستغرب، لكن قلة رأت فيها الصدمة المطلوبة للإجابة عن أسئلة الحاضر، وقلة استوعبت أن مشروع سماحته رحمه الله كان مشروعاً تصالحياً بين الدين والعصر بعدما أسس علماء كثيرون مشروعاً تأزيمياً بين الدين والعصر).
2. ولأن التشريعات جاءت من أجل أن تخفف من معاناة الناس وتحررهم من القيود التي اصطنعوها لأنفسهم: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) الأعراف:157.
3. ولأن فيها من السعة والمرونة ما يرفع الحرج عن الناس بعناوين مختلفة تمكّن الفقيه الذي عايش عن قرب وانفتاح حياة الناس وتواصل معهم بشكل يومي في سلمهم وحربهم.. في سعتهم وضيقهم.. في غناهم وفقرهم.. في صحتهم وسقمهم.. في سلامتهم وإعاقاتهم.. في علاقاتهم الشخصية والسياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية.. تمكنه
من أن يدرك المفهوم العملي لقول الله سبحانه: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) المائدة:6.
ـ لقد مثّل فقيهنا الراحل المرجعية الإسلامية الكبيرة التي لم تنغلق على ذاتها، ولم تتقولب في العناوين المذهبية، ولم
تحبس نفسها في أطر العصبيات، لأنه كان يكرر دائماً ما آمن به منذ أن انطلق في حياته العلمية والعملية أنه يحمل
همّ الإسلام وهمّ الإنسان، وأنه سيعمل من أجل ذلك، ولن تأخذه في الله لومة لائم، فعمل وصبر وأعطى حتى رجع إلى ربه، وكان يكرر: (وأقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخاطباً الله عز وجل: [إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي]، فحساباتي ليست مع الناس، بل مع رب الناس، وأرجو أن تكون حساباتي معه موضع رضاه وقبوله).