تصحيح مفهوم النقد - الشيخ علي حسن


حب الإنسان أو تعصّبه لنفسه أو لسواه يدفعه للافراط في الحساسية من النقد..وقد تساعد على ذلك حساسية الدائرة التي يرتبط بها النقد، كأن يكون نقداً لشخصية يقدسها، وان لم تكن مقدسة في واقعها.فما هو الموقف السليم من النقد؟

المفهوم اللغوي:
للنقد لغوياً أكثر من معنى، وما يهمنا معنيان:
-1 التمييز بين الجيد والرديء من الدراهم والدنانير، فيقال: نقدت الدراهم وانتقدتها اذا أخرجت المزيف منها.
-2 العيب والثلم والتجريح، فيقال: نقدت رأسه باصبعي اذا ضربته، وفي الحديث: (ان نقدتَ الناس نقدوك وان تركتهم تركوك).أي: ان عبتهم أو اغتبتهم قابلوك بمثله.
وغالباً ما نتجه في تصورنا لمعنى النقد الى المعنى الثاني، فنعتبره حالة من ملاحقة العيوب وتصيدها وفضحها، ولهذا اعتُبر النقد في كثير من المجتمعات مظهراً من مظاهر العداوة والبغضاء وسبيلاً من سبل الاهانة والتحقير.أما المعنى اللغوي الأول، فلعله الأنسب الذي يجب ان نعمل لترسيخه في وعي الناس، وهو الأليق بالمراد من كلمة النقد في الاصطلاح الحديث من ناحية، وفي اصطلاح أكثر المتقدمين من ناحية أخرى، فان فيه معنى الفحص والموازنة والتمييز والحكم.

الموقف الإسلامي:
وقد اعتبر الإسلام ان النقد ان كان بمعنى التصيّد وفضح المعايب فهو أمر مرفوض، فللإنسان حرمة، وليس لأي شخص ان يقتحم حياته الخاصة دون رضاه، أو يعتدي على أسرارها دون اذنه، ولذا حرّم التجسس {وَلا تَجَسَّسُوا} الحجرات:12، وفي الحديث عن الامام جعفر الصادق عليه السلام: (أدنى ما يخرج به الرجل من الايمان ان يؤاخي الرجلُ الرجلَ على دينه، فيحصي عليه عثراته وزلاّته ليعيّره بها يوماً ما).بل نجد المنع في بعض النصوص من هتك الإنسان لحرمة نفسه من خلال التحدث عن أسراره الخاصة بما يسقط شخصيته، وفي الحديث: (اذا بُليتم فاستتروا).
وأما النقد بالمعنى الآخر، أي بمعنى التقييم والتمييز بين الجيد والرديء فالحكم فيه يعتمد على الدافع، فان كان الدافع هو:
-1 التعيير والتحقير والاهانة: فيدخل في الدائرة السابقة، وتشمله نصوصها.
-2 النصح والارشاد: فيدخل في قول الامام جعفر الصادق عليه السلام: (المسلم أخو المسلم هو عينه ومرآته ودليله)، وفي هذا وغيره من النصوص تشجيع على النقد بهذا المفهوم وبهذا الدافع، لأن أخاك بمثابة نفسك، وهذا ما أكدته الآيات القرآنية العديدة، كقوله تعالى: {فَاذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} النور:61.وقوله تعالى: {وَاذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} البقرة:84-85.ثم ان انحراف الفرد يترك أثره الكبير على استقامة المجموع كنتيجة طبيعية للارتباط العضوي بين المجتمع وأفراده..ولذا فان على الطرف الآخر تقبّل النقد بهذا المفهوم وبهذا الدافع، وفي دعاء مكارم الأخلاق للامام علي زين العابدين عليه السلام: (ووفقني لطاعة من سدّدني ومتابعة من أرشَدَني).
-3 التقييم الشخصي: فالإسلام لا يريد للمؤمن ان يكون ساذجاً سطحياً في نظرته الى الآخرين، لأن ذلك قد يورّطه في أمور عديدة، وقد يربك حياته وحياة الآخرين بسبب ذلك، ولذا فهو بحاجة الى التقييم القائم على أسس سليمة، وهذا ما نلاحظه في النص التالي المروي عن الامام زين العابدين عليه السلام حيث قال: (اذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويداً لا يغرّكم، فما أكثر مَن يُعجزُه تناولُ الدنيا وركوبُ الحرام منها لضعفٍ بنيّته، ومهانته، وجبن قلبه..فنصب الدّين فخّاً لها، فهو لايزال يختل الناس بظاهره، فان تمكّن من حرام اقتحمه...) الخ هذا النص الرائع في تحليل سلوك الآخر، لا بغرض التعيير، بل لحسن التقييم.

ثلاث رسائل:
الرسالة الأولى: للقائمين على القانون وتنفيذه: النقد بمفهومه السليم جزء من مساحة الحرية التي ننعم بها في الكويت، ومعالجة الأخطاء والتجاوزات لا يكفي فيها استخدام القانون وتنفيذ العقوبات وما الى ذلك، بل لابد من ان يكون للتربية وللإعلام دورهما في ترسيخ المفاهيم والممارسات الصحيحة، لأن الاقتصار على القانون والعقوبة قد يعطي نتائج عكسية، وقد يذهب ضحية ذلك أناس لم نرفعهم الى مستوىً من الوعي يمنعهم عن الوقوع في المحظور، بل لربما نشجعهم على الخطأ حين يتم التعامل مع الأمر بانتقائية واضحة.
الرسالة الثانية: لمن يستغلون القانون لتصفية الحسابات: كفاكم عبثاً بهذا الوطن، جمّدوا أجنداتكم الخاصة التي توظّفونها للانتصار لمذهبياتكم وانتماءاتكم، وللانتقام من خصومكم السياسيين، ولفرض كلمتكم على الآخرين بالأساليب العنترية، فكل المؤشرات والدلائل تؤكد ان الجميع سيخسر، ولربما تكون الخسائر غير قابلة للجبران.
الرسالة الثالثة: للمستفيدين من مساحة الحرية في الكويت: للكلمة مسؤولية، وللتعبير آداب وحدود، وللنقد أخلاقيات، وللظروف حُكم فيما نقول وفيما نفعل، فلكل مقام مقال، ورب كلمة سفكت دماً حراماً، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: (لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ، وَقَلْبُ الأحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ).وليس في هذا مطالبة بالسكوت عن الحق، ولكن بالكلام بعد التدبر والتعقل.