المبعث النبوي: يوم العلم


من محاضرة ألقاها المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله بمناسبة المبعث النبوي الشريف، في 1998م.
هذا هو يوم الفرح الأكبر، لأنّه يوم ولادة الإسلام الذي أراد الله تعالى للناس ان ينفتحوا عليه، لتنفتح عليهم بركات السماوات والأرض، وأن يهتدوا به في الخط العام للهداية، في الايمان بالله ورسوله ورسله ورسالاته وكتبه واليوم الآخر، وفي الخط العملي في حركة التشريع الّذي أراد الله سبحانه للناس ان يأخذوا به على أساس أنه هو الذي يمثل الحياة الحقيقية، والتي عبّر الله تعالى عنها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ اذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} الأنفال:24.فالدعوة الإسلامية هي دعوة للحياة، الحياة الثقافية التي تنفتح بالإنسان على المعرفة.
ولذلك، فانّ الإسلام انطلق من أجل ان يخرج الناس من أمية الفكر والحرف والاحساس والشعور، ليكون كلُّ مسلم مثقفاً بكل ما تتحرّك به مسؤوليته في الحياة، ان من حيث مسؤولية الايمان بالله ورسوله واليوم الآخر، أو من خلال الخطِّ الأخلاقي والروحي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني الذي يريد الله تعالى للناس ان يسيروا فيه.لذلك أيّها الأحبة، ان مسألة الإسلام هي مسألة وعيٍ وعلمٍ ومعرفةٍ لابد للناس من ان يأخذوا بها، وليس للإنسان المسلم الحرّيّة في ان يكون جاهلاً أو يكون متخلّفاً، لأنّ الإسلام يؤكّد العلم كأساس لتقويم الأفعال.

تطبيق العلوم الحياتية:
ولهذا، على كلّ من ينتمي الى الإسلام ان يشغل وقته بالعلم، كلٌّ بحسب الوسائل المتاحة له، فقد لا يستطيع بعض الناس ان يدخل جامعةً، ولكن يبقى بامكانه ان يستفيد من جامعة الحياة، بالانفتاح على تجاربها..كما يمكنه ان يجعل من علاقته بالناس الذين يعيش معهم ويعيشون معه، حركة حوار في كلِّ ما تتصل به مسؤوليته، وكلّ ما ينبغي للإنسان معرفته.فلتكن احتفالاتنا بالمبعث النبويّ الشريف بدايةً لحركة علمية يحاول كل إنسان فيها ان يدرس مقدار ما يملكه من معرفة، ليستزيد منها بحسب طبيعة الوسائل التي يملكها.
وعلينا ان نعرف ان مسألة المعرفة لا تتّصل فقط بالجانب الثّقافيّ، بل بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أيضاً، لأنّ كل هذه العناوين في حركة الإنسان في الحياة ترتبط بحجم المعرفة التي يملكها.فمثلاً، عندما نمارس المسألة السياسية على المستوى المحلي أو الاقليمي أو العالمي، نجد أنّها تخضع لخطوط فكرية ولكثير من الأوضاع والعلاقات والتخطيطات التي يخطِّط لها الآخرون أو التي يجب ان نخطِّط لها نحن، فاذا لم تكن لنا المعرفة السياسيّة والثّقافيّة، فسوف نتخبّط في العمل السياسيّ، وسوف يبقى العمل السياسيّ الإسلاميّ مجرّد هتافات وانفعالات وحماس.
وكذلك الأمر عندما ندخل الى الواقع الاجتماعي، في داخل العائلة، أو في داخل التجمّعات المتنوّعة هنا وهناك، في المدينة أو في القرية أو في الوطن كلّه، اذ لابد لنا، لكي نركّز الخطوط الاجتماعية التي يمكن ان تجعل من هذا التجمع الإنساني المختلف في كثير من خصوصيات أفراده، واقعاً متوازناً قوياً يمكن ان يواجه كلّ التباينات والتناقضات والأوضاع القلقة التي تحيط به، لابد من التّخطيط المنطلق من وعي الأوضاع والخلفيات والعلاقات الاجتماعية، حتى نستطيع التّخطيط لمجتمع يمكن ان يلتقي على القواسم المشتركة التي تمثّل المصالح العامة للجميع، ويتحرّك في خط الحوار الموضوعي العقلاني في كل ما يختلف فيه الناس، وهو ما يمثِّل ضمانةً لسلامة أيّ مجتمع، ويمنع الذين يتحرّكون في داخله من ان يهزّوه بالاشاعات والانفعالات والعصبيات.
واذا انطلقنا الى الجانب الاقتصادي، نرى ان الاقتصاد اليوم لم يعد كما كان عليه في السابق، مجرد عملية تتدخل فيها الشطارة الذاتية للتاجر هنا، أو للعامل هناك، أو لصاحب المعمل هنالك، بل أصبح علماً معقَّداً يحتاج الى الكثير من الثقافة الاقتصادية التي يعرف الإنسان من خلالها كيف يخطّط لكلّ المشاكل الاقتصادية ليحلّها بطريقة واقعية..أيّها الأحبّة، انّنا نحتاج الى الثقافة الاقتصادية، كما نحتاج الى ان نقرأ جيداً خطوط الاقتصاد الإسلامي، لنعرف ان للإسلام مذهباً اقتصادياً مختصّاً به، ليس اشتراكياً ولا راسمالياً، بل هو مذهبٌ يتميز باستقلالية تجمع بين الجانب الموضوعي الواقعي والجانب الأخلاقي الروحي..
ان مشكلتنا أنّنا لا نزال نعيش الحاجة الى الآخرين، ونحن نعرف ان الإنسان تستعبده حاجاته، فاذا كان يملك ما يلبّي به هذه الحاجات، فانّه يستطيع ان يشعر بالحرية أمام الآخرين، أما اذا كان لا يملك ما يلبّي به حاجاته، فسوف يشعر بالضعف..ان سبب الضّعف الّذي نواجهه، هو أنّنا نعيش التخلّف العلمي والرّوحيّ والحركي في حياتنا، ولذلك لا نزال نعيش تحت رحمة الاشاعات التي تنتجها المخابرات هنا وهناك، كما أننا لا نزال نعيش عبادة الشخص في حياتنا السياسية والدينية والاجتماعية، ولا نزال نعيش التخلف في وعينا للأشياء.لذا عليكم ان تجمِّدوا الحماس، الا اذا كان الحماس جزءاً من خطة عقلانية..لقد جاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أجل ان يعلّمنا الكتاب والحكمة، وعلينا ان نكون الأمناء على الكتاب، والحكماء في ادارة أمورنا.