خطبة الجمعة ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية بعنوان تاريخية السنة


ـ (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) آل عمران:164.
ـ تمثل ذكرى المبعث النبوي الشريف محطة من محطات التفكّر في ما قدّمه النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم للبشرية، ولخّصته هذه الآية المباركة، تلاوة القرآن بما يشمل مفاهيمه وأحكامه، ثم التزكية الروحية والسلوكية، وتعليم الناس الحكمة في الحياة، وتعليم الكتاب الذي لربما يشير إلى ما تمثله سنته الشريفة باعتبارها ما كتبه الله على الناس وأوحاه إلى النبي خارج إطار القرآن.
ـ وبالتالي غدت السنة الشريفة مصدراً من مصادر التراث العقدي والفقهي والأخلاقي والمعرفي لاسيما وقد قال الله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) الحشر:7.
ـ ولكن هل من الصحيح أن يتم التعامل مع السنّة بطريقة واحدة، بحيث تكون بأجمعها قاعدة عامّة على مر الزمان؟ أم لا بدّ من التمييز بين رواية وأخرى؟ وهذا البحث يعنون أحياناً بـ (تاريخية ـ تاريخانية ـ السنة).
ـ أولاً نحتاج إلى أن نميز بين ثلاثة معان لمفهوم (تاريخانية السنة) في الاصطلاح المتداول اليوم:
1. التحقّق في التاريخ: بمعنى أنه شئ حادث وليس بقديم كقِدم الله. ولتقريب المعنى نستذكر فتنة خلق القرآن، فمن قال أن القرآن قديم منذ الأزل كما أن الله قديم، فهو لا يقول بتاريخانية القرآن، والذين يقولون بأنه حادث وليس بقديم
فيقولون بتاريخانيته. ومن المتفق عليه أن لا أحد يقول بأن السنة ليست تاريخانية بهذا المعنى، فهي حادثة حتماً.
2. التاريخية المعرفية: أي أن ندرس المحيط التاريخي للنص الذي هو من السنة، ونفهم النص من خلاله. ففي زمن صدور السنة كانت الخمرة تسمى قهوة، ولذا ورد النهي عن شربها، فحرّم عدد من الفقهاء شرب البن في زمن لاحق بناء على ذلك، بينما الدراسة التحقيقية لتطور التاريخي لهذا المصطلح عند العرب يكشف أن تسمية البن بالقهوة لم تحدث إلا في حدود القرن العاشر الهجري (15 ميلادي) ولذا اختلط الأمر على من أفتى بالحرمة.
3. التاريخيّ بمعنى الموقّت: والمقيّد بالظرف التاريخي الذي تحقّق فيه. وهو مرتبط بالعنوان السابق نحو ارتباط. وهذا هو ما نريد أن نبحث فيه.. فهل في السنة ما هو تاريخي أي مؤقت زال بتغير الزمان والمكان؟
ـ لو عدنا إلى النصوص سنجد فيها ما يدل على ذلك، وفي البين عدة أمثلة منها ما جاء في مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف). هنا يصطدم النص مع مجموعة من العناوين الصحية والدينية كعدم إلقاء النفس في التهلكة وغيرها، وقد حاول البعض أن يعتبر الأمر الوارد في الخبر نوعاً من الحجر الصحي.. ولكن وضع النص في سياقه التاريخي يحل المشكلة، ولا يضطرنا إلى فهم خاطئ وبالتالي إصدار فتوى خاطئة كما وقع فيه البعض. وهذا ما بيّنه الإمام الصادق عليه السلام، ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (سألت عن الوباء يكون في ناحية المصر فيتحوّل الرجل إلى ناحية أُخرى، أو يكون في مصر فيخرج منه إلى غيره؟ فقال: لا بأس، إنّما نهى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك لمكان ربيئة ـ قوة مراقبة عسكرية ـ كانت بحيال العدوّ، فوقع فيهم الوباء فهربوا منه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: الفارّ منه كالفارّ من الزحف، كراهية أن يُخلُوا مراكزهم). فلو كنا نحن والنص الأول لأفتينا بحرمة الهروب من الوباء، ولكن عندما عرفنا أن النهي مقيّد بظرف تاريخي محدد انحلت المشكلة.
ـ ولكن بما أننا لا نملك دائماً نصوصاً من هذا القبيل توضح الظرف التاريخي، لنقيّد الحكم بذلك الظرف، وبالتالي فإننا نحتاج إلى ما يدلنا على ذلك، لأن الأصل هو ثبات النص وديمومة الحكم، أما تاريخانيته فاستثناء. وقد عمل بعض فقهائنا من أجل وضع أسس للتمييز بين السنة في هذا الإطار، ضمن نظريات عديدة.
ـ وقد طرح الشهيد محمد باقر الصدر نظرية (الأحكام الحكومية الولائية)، معتبراً أن بعضاً مما صدر عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إنما صدر لا باعتباره نبياً مبلّغاً لرسالة، بل باعتباره حاكماً فرضت الظروف الموضوعية صدور ذلك الحكم منه، لا أن ما صدر عنه يمثل الحكم الشرعي الواجب تنفيذه في كل زمان ومكان.
ـ وضرب على ذلك مثالاً، حيث حرّم النبي على أهل المدينة أن يحتفظوا بما يفيض عندهم من مياه السقي. وقد اعتبر السيد الشهيد أنه إجراء ولائي مؤقت حسب مقتضيات الظروف؛ لأن مجتمع المدينة كان بحاجة شديدة إلى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية، فألزمت الدولة الأفراد ببذل ما يفضل من مائهم وكلأهم للآخرين.
ـ وقد بالغ البعض بالقول بتاريخانية السنّة كلّها، وهذا مجافٍ للصواب، وتعطيل مذموم للشريعة التي تمثّل السنّة أحد أهمّ أركانها، ولعلي أطرح هذا الموضوع على بساط البحث في مناسبة أخرى.
ـ وخلاصة القول أننا عندما نتعامل مع نصوص السنة نحتاج إلى التروّي في الحكم عليها بالصحة أو البطلان عندما نجد فيها ما قد يتعارض مع بعض الحقائق العلمية مثلاً.. كما يحتاج الفقيه إلى التروي في استنباط الحكم الشرعي منها، فبعض الروايات صدرت وقيّدت بظرفها التاريخي، وبعضها الآخر صدرت لتكون قاعدة عامّة.
ـ (اَللّـهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد كَما حَمَلَ وَحْيَكَ، وَبَلَّغَ رِسالاتِكَ، وَصَلِّ عَلى مُحَمَّد كَما اَحَلَّ حَلالَكَ، وَحَرَّمَ حَرامَكَ، وَعَلَّمَ كِتابَكَ، وَصَلِّ عَلى مُحَمَّد كَما اَقامَ الصَّلاةَ، وَآتَى الزَّكاةَ، وَدَعا اِلى دينِكَ، وَصَلِّ عَلى مُحَمَّد كَما بَعَثْتَهُ بِخَيْرِ الاَْدْيانِ، وَاَعْزَزْتَ بِهِ الاْيمانَ، وَتَبَّرْتَ بِهِ الاَْوْثانَ، وَعَظَّمْتَ بِهِ الْبَيْتَ الْحَرامَ، وَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَاَهْلِ بَيْتِهِ الطّاهِرينَ الاَْخْيارِ وَسَلِّمْ تَسْليماً) .