علي والحق - الشيخ علي حسن


يمثّل الحقُّ بالنسبة إلى الإمام عليّ عليه السلام هدفاً من أسمى الأهداف التي سعى لتحقيقها ما أمكنه ذلك، فكان شديداً في ذلك، لا يداهن، ولا يتنازل، لأن مسألة الحق عنده هي مسألة الحياة، فإذا سلبت الحق من أحد فكأنما حياته تسلب.
وهذا ما ترعرع عليه الإمام علي عليه السلام في أوج صراع الحق مع الباطل وقهر المستكبرين للمستعضفين في مكة المكرمة، فكانت أمنية المشركين أن يتنازل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو عن شئ بسيط مما كان يدعو إليه، كما قال تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) القلم:9، إلا أن رسول الله صمد، ولم يتنازل، وقاوم ولم يمالئهم حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً.. وهكذا عرف علي عليه السلام موقع الحق في الحياة وقد قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ) الحجر:58.. وهذا ما شخّصه النبي الأكرم في ربيبه علي فقال فيه: (عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ، يدور معه حيثما دار).
الهداية للحق:
وقد تحدث أمير المؤمنين علي عليه السلام في بيان هذه العلاقة اللصيقة بينه وبين الحق، فقال: (بنا ـ أي بمحمد وآله ـ اهتديتم في الظلماء، وتسنّمتم العلياء، وبنا انفجرتم عن السرار ـ كنتم في الظلمات فصرتم إلى ضياء ساطع ـ .. أقمت لكم على سَنَن الحق في جواد المَضَلّة ـ فالحياة كالأرض المليئة بطرق الضلال، وللحق من بينها طريق واحد، وقف عليه علي عليه السلام ـ حيث تلتقون ولا دليل، وتحتفرون ولا تميهون ـ لا تجدون ماءً ـ.. غرب ـ غاب ـ رأي امرئ تخلف عني، ما شككت في الحق مذ أريته.. اليوم تواقفنا على سبيل الحق والباطل).
وهكذا كان علي عليه السلام دائماً على مفرق الطريق بين الحق والباطل لينقذ من أراد النجاة، وليعيد أيضاً الحق إلى صاحبه متى ما أُخذ منه بالقوة والاستكبار وهو القائل: (الذّليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقَّ له، والقويّ عندي ضعيف حتّى آخذ الحقَّ منه). وقال عليه السلام: (فلأنقبنّ الباطل حتى يَخرجَ الحقُّ من جنبه).
طلب الحق فأخطأه:
وقال عليه السلام: (لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه)، فهو يطالب بالتبصّر في المواقف وردود الأفعال عند الاختلاف، فليس الموقف واحداً مع كل أحد، بل الدوافع تمثّل إحدى المقوّمات التي تحدد طبيعة الموقف ورد الفعل.. ولكن المشكلة أحياناً كثيرة هي أننا نشخصن خلافاتنا العامة ذات البعد الديني أو المذهبي أو السياسي وأمثالها.. وشخصنة هذه الخلافات ستجرّنا إلى اتخاذ المواقف الخاطئة وردات الفعل العنيفة، لأن الإنسان بطبعه يحب ذاته أكثر مما يحب أي شئ آخر، وقد قال الله تعالى: (فإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) عبس:33-37.. هذه هي الصورة الحقيقية لمشاعر الإنسان.. فنفسه تأتي في المرتبة الأولى، وبالتالي إذا شخصن الإنسان خلافاته في القضايا العامة فإنه سيتطرف في مواقفه، ويحيد عن الحق، لأنه يريد أن ينتقم لنفسه وكبريائه، أو يريد أن يثبت أنه الأقوى أو الأفضل.
صور متعددة:
وهذا الأمر نلاحظه في العلاقات الاجتماعية، ففي الأسرة قد يكون اختلاف الأطباع من عوامل الخلاف بين الزوجين، أو قد يكون ذلك للطريقة الخاطئة في إدارة الأسرة، وعلى كل حال فالمسألة ليست موجهة للطرف الآخر بشخصه، ولكنه متى ما اعتبرها موجهة إليه بشخصه، وأنها مسألة كرامة مجروحة وعزة مفقودة فإنها ستتحول إلى ساحة نزاع عنيف قد يدمر هذه الأسرة.
وهكذا هو الحال في الخلافات السياسية في دائرة التكتل السياسي الواحد حين تبرز الانشقاقات، فيشكل كل طرف تكتلاً صغيراً بمفرده تحت شعار العودة إلى المبادئ وما إلى ذلك، بينما قد يكون الدافع في حقيقته هو الذات. وكذلك هو الحال في الحراك السياسي حين يتخذ هذا الطرف موقفاً قد يكون خاطئاً، ولكنه اتخذه عن حسن نية وهو يطلب الحق فأخطأه، ولكننا نتعامل معه كما نتعامل مع من يطلب الباطل ويريد الباطل ويعمل للباطل.. لأني أعتبر نفسي مع الحق، فكيف له أن يأخذ موقفاً مغايراً لما اخترته أنا.. وليست المسألة في حقيقتها: لِمَ يأخذ موقفاً مغايراً للحق!
وعلى ذلك فقس الخلافات الدينية والمذهبية والفقهية التي قد يتعصب لها الإنسان ويعادي من خلالها الآخرين حتى أولئك الذين طلبوا الحق فأخطؤوه، حيث تكون نواياهم سليمة، ولكن مشكلتهم أنهم لم يهتدوا إلى الحق.. إلا أن المسألة تبقى غالباً: كيف لهم أن يختاروا غير ما اخترت أنا!! كيف لهم أن يخالفونني أنا!!
ولكل واحدٍ منا أن يراجع نفسه في منطلقات مواقفه وردود أفعاله تجاه الآخر الذي يختلف معه.. إنها ليست دعوة إلى التساهل في أمر التمسك بالحق، ولكنها دعوة لتجريد المواقف عن الذاتيات، لأن شخصنة مسألة الحق والباطل يحيد بها عن الحق.