خطبة الجمعة ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية بعنوان النقد


ـ حب الإنسان أو تعصّبه لنفسه أو لسواه يدفعه للإفراط في الحساسية من النقد.. وقد تساعد على ذلك حساسية الدائرة التي يرتبط بها النقد، كأن يكون نقداً لشخصية يقدسها، وإن لم تكن مقدسة في واقعها. فما هو الموقف السليم من النقد؟
ـ للنقد ـ لغوياً ـ أكثر من معنى، وما يهمنا معنيان:
1. التمييز بين الجيد والردئ من الدراهم والدنانير، فيقال: نقدت الدراهم وانتقدتها إذا أخرجت المزيف منها.
2. العيب والثلم والتجريح، فيقال: نقدت رأسه بإصبعي إذا ضربته، وفي الحديث (إن نقدتَ الناس نقدوك وإن تركتهم تركوك). أي: إن عبتهم أو اغتبتهم قابلوك بمثله.
ـ وغالباً ما نتجه في تصورنا لمعنى النقد إلى المعنى الثاني، فنعتبره حالة من ملاحقة العيوب وتصيدها وفضحها.
ولهذا اعتُبر النقد في كثير من المجتمعات مظهراً من مظاهر العداوة والبغضاء وسبيلاً من سبل الإهانة والتحقير.
ـ أما المعنى اللغوي الأول، فلعله الأنسب الذي يجب أن نعمل لترسيخه في وعي الناس، وهو الأليق بالمراد من كلمة النقد في الاصطلاح الحديث من ناحية، وفي اصطلاح أكثر المتقدمين من ناحية أخرى، فإن فيه معنى الفحص والموازنة والتمييز والحكم.
ـ وقد اعتبر الإسلام أن النقد إن كان بمعنى التصيّد وفضح المعايب فهو أمر مرفوض، فللإنسان حرمة، وليس لأي
شخص أن يقتحم حياته الخاصة دون رضاه، أو يعتدي على أسرارها دون إذنه، ولذا حرّم التجسس (وَلا تَجَسَّسُوا) وفي الحديث عن الصادق عليه السلام: (أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يؤاخي الرجلُ الرجلَ على دينه، فيحصي عليه عثراته وزلاّته ليعيّره بها يوماً ما). بل نجد المنع في بعض النصوص من هتك الإنسان لحرمة نفسه من خلال التحدث عن أسراره الخاصة بما يسقط شخصيته، وفي الحديث: (إذا بُليتم فاستتروا).
ـ وأما النقد بالمعنى الآخر، أي بمعنى التقييم والتمييز بين الجيد والردئ فالحكم فيه يعتمد على الدافع، فإن كان هو:
1. التعيير والتحقير والإهانة: فيدخل في الدائرة السابقة، وتشمله نصوصها.
2. النصح والإرشاد: فيدخل في قول الصادق عليه السلام: (المسلم أخو المسلم هو عينه ومرآته ودليله)، وفي هذا وغيره من النصوص تشجيع على النقد بهذا المفهوم وبهذا الدافع، لأن أخاك بمثابة نفسك، وهذا ما أكدته الآيات القرآنية العديدة، كقوله تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) النور:61. وقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ) البقرة:84-85. ثم إن انحراف الفرد يترك أثره الكبير على استقامة المجموع كنتيجة
طبيعية للارتباط العضوي بين المجتمع وأفراده.. ولذا فإن على الطرف الآخر تقبّل النقد بهذا المفهوم وبهذا الدافع، وفي دعاء مكارم الأخلاق: (ووفقني لطاعة من سدّدني ومتابعة من أرشَدَني)..
3. التقييم الشخصي: فالإسلام لا يريد للمؤمن أن يكون ساذجاً سطحياً في نظرته إلى الآخرين، لأن ذلك قد يورّطه في أمور عديدة، وقد يربك حياته وحياة الآخرين بسبب ذلك، ولذا فهو بحاجة إلى التقييم القائم على أسس سليمة، وهذا ما نلاحظه في النص التالي المروي عن الإمام زين العابدين عليه السلام حيث قال: (إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويداً لا يغرّكم، فما أكثر مَن يُعجزُه تناولُ الدنيا وركوبُ الحرام منها لضعفٍ بنيّته، ومهانته، وجبن قلبه.. فنصب الدّين فخّاً لها، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره، فإن تمكّن من حرام اقتحمه...) إلخ هذا النص الرائع في تحليل سلوك الآخر، لا بغرض التعيير، بل لحسن التقييم.
ـ لدي ثلاث رسائل:
1. للقائمين على القانون وتنفيذه: النقد بمفهومه السليم جزء من مساحة الحرية التي ننعم بها في الكويت، ومعالجة الأخطاء والتجاوزات لا يكفي فيها استخدام القانون وتنفيذ العقوبات وما إلى ذلك، بل لابد من أن يكون للتربية وللإعلام دورهما في ترسيخ المفاهيم والممارسات الصحيحة، لأن الاقتصار على القانون والعقوبة قد يعطي نتائج عكسية، وقد يذهب ضحية ذلك أناس لم نرفعهم إلى مستوىً من الوعي يمنعهم عن الوقوع في المحظور، بل لربما نشجعهم على الخطأ حين يتم التعامل مع الأمر بانتقائية واضحة.
2. لمن يستغلون القانون لتصفية الحسابات: كفاكم عبثاً بهذا الوطن، جمّدوا أجنداتكم الخاصة التي توظّفونها
للانتصار لمذهبياتكم وانتماءاتكم، وللانتقام من خصومكم السياسيين، ولفرض كلمتكم على الآخرين بالأساليب العنترية، فكل المؤشرات والدلائل تؤكد أن الجميع سيخسر، ولربما تكون الخسائر غير قابلة للجبران.
3. للمستفيدين من مساحة الحرية في الكويت: للكلمة مسئولية، وللتعبير آداب وحدود، وللنقد أخلاقيات، وللظروف حُكم فيما نقول وفيما نفعل، فلكل مقام مقال، ورب كلمة سفكت دماً حراماً، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: (لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ، وَقَلْبُ الأحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ). وليس في هذا مطالبة بالسكوت عن الحق، ولكن بالكلام بعد التدبر والتعقل.