المعرفة والإيمان وتجديد العالم - مصطفى المرابط

لم تعرف الإنسانية في تاريخها وضعاً مماثلاً للوضع الذي تعيشه الآن، وضع يتّسم بالحيرة والتيه والقلق، وضع يشعر فيه الإنسان بالازدواجية والمفارقة، فلقد تحقّق للإنسان في الخمسين سنة الماضية ما لم يتحقّق له طيلة تاريخه.. من رغد العيش، ورفاهية الحياة، ولكن بالمقابل فقَدَ الطمأنينة والاستقرار، فقَدَ الوجهة والبوصلة. وَضْعٌ يضرب فيه الفقر أطنابه، فقرٌ مادّي يضرب أربعة أخماس العالم وفقرٌ روحي يضرب ما تبقّى منه. عالم يتغذّى بالحروب والصراع والصدام والإرهاب، عالم يكدّس ترسانة من الأسلحة تكفي لإبادة 70 مليار من البشر أي ما يعادل اثنا عشر مرة ساكنة العالم، إذا اعتبرنا أنّ ساكنة كوكب الأرض تناهز الستة ملايين.
لا أحد يجادل في المكانة والأهمية التي يَكْتَسيها العلم في الحضارة المعاصرة، كما لا يمكن لأحد أن ينكر أنّ هذا العلم أصبح الفاعل الأساسي، إن لم يكن الوحيد في حياة هذه الحضارة، فلو أردنا أن نعطي عنواناً ملخِّصاً وجامعاً لحضارة العصر لكان بدون منازع: العلم. ولكن هذا العلم بقدر ما فتح آفاقاً لم تكن الإنسانية تحلم بها، بقدر ما صاحبتها مخاطر كمّية ونوعية أصبحت تهدّد توازن الكون ومصادر الحياة وهوية الإنسان الوجودية.
ولعلّ هذا ما استحضره أينشتاين عندما أجاب على سؤال كيف ستكون الحرب العالمية الثالثة قائلاً: (لا أعرف كيف ستكون الحرب العالمية الثالثة، ولكن أعرف أنّ الحرب العالمية الرابعة سيشهدها قليل من الناس وستكون بالحجارة والعصي). لقد أصبحت مسؤولية العالِم جسيمة في اختياراته ومواقفه. فلم يعد كافياً أن يُحدَّد العالِم بما يحمله من علم ومعارف فقط بل لا بدّ أن يُنْظَر فيما يتّخذه من مواقفَ مِمّا يعلم، بمعنى ضرورة إقران العلم بالعمل، ولعلّ هذا ما يرشح من هذا الحوار الرائع بين طفل وأحد العلماء حيث كان يمشي في الطريق عندما رأى غلاماً وأمامه حفرة، فناداه: يا غلام إياك أن تسقط. فنظر الغلام إليه وقال: بل أنت ـ يا إمام ـ إياك أن تسقط.. أنا إنْ سقَطْتُ، سَقَطْتُ وحدي.. وإنك إن سقطتَ أنت سقط معك العالَم. فإذا سقط العالِم سقط العالَم).
نسْتَشْعِر أن هناك وعياً جديداً بدأ يتبلور في صفوف (النّخب العالِمة) نتيجة إدراكهم للمخاطر المُحْدقَة بالحياة من جهة، ونتيجة الثورات المعرفية التي يُسْفِر عنها العلم في مختلف الميادين من جهة أخرى. إلا أنّ قصور جهاز مفاهيمنا وفقر أدواتنا ومناهجنا المعرفية تَحُول دون استيعاب هذه التحوّلات النوعية وتمثُّلها. لم يعد الأمر يتطلّب فقط مواكبة معرفة هذه التطوّرات العلمية والمعرفية وانعكاساتها، سلباً وإيجاباً، على الإنسان والكون والحياة، بل يتطلّب تغييراً نوعياً في نظام رؤية العالم، أيّ النظام الذي به نتمثّل العالم، وبه نعي ذواتنا وما حولنا، وبه تتحدّد علاقاتنا مع أنفسنا ومع العالم. إنّ تغييراً من هذا النوع سيطال، من بينما سيطال، نماذجنا التفسيرية، التي كانت وما تزال (على الأقل في ميادين كثيرة من العلم) تُحدِّد المعرفة في الكمّ، وتفصل الذات عن الموضوع، وتختزل العلم في المادي؛ لتصبح أكثر مرونة وأكثر انفتاحاً وأكثر تواضعاً، تزاوج بين الكمّ والكيف في مقاربتها المناهجية، وتستحضر سؤال المقاصد بجانب سؤال الوسائل في طلبها للعلم، ويصبح معها الإنسان مشاركاً في موضوع الدراسة ومتفاعلاً معه وليس مفصولاً عنه، بحيث تُؤْخَذ بعين الاعتبار علاقة التأثير والتأثّر بين الذات والموضوع، التي أصبحت اليوم حجر الزاوية في بناء منظومة العلم الجديدة. من هنا أهمية المحاولات الجريئة في مختلف العلوم، التي بدأت تطلّ برأسها لتُدشِّن مرحلة جديدة تطمح من خلالها إلى القطع مع النزعة العلموية السائدة، التي جعلت من العلم مصدراً وحيداً ومطلقاً للمعرفة. المحاولات هذه تعتبر أنّ المعرفة بطبيعتها متعدّدة ومتنوّعة، وبالتالي فإنّ العلم هو أحد أشكال هذه المعرفة، ولا تكتمل هذه المعرفة إلا إذا أفسحنا المجال لكلّ الأشكال المعرفية لتساهم، كلٌّ من زاويتها، في بناء رؤيتنا للإنسان والكون والحياة. هذه المقاربة التكاملية للمعرفة تقتضي العمل على فتح هذه الأشكال المعرفية بعضها على بعض، لتتشابك وتتدافع بغية التفاعل والتخصيب المتبادل، على أمل الوصول إلى الحكمة وَلَجْم إرادة التدمير.. خاصية الحضارة المعاصرة بامتياز. أصبح العلم أكثر فأكثر يتّسم بالتواضع ويعترف بقصوره في الإحاطة بالواقع والحقيقة، وهو بالتالي في أمسّ الحاجة إلى من يُكَمِّله، كما أنّ العلم يكشف لنا يوماً بعد يوم أنّ غرابة الإنسان في الكون هو وهم لا وجود له إلاّ في أذهان من يقول بها، بل بين الإنسان والكون وشائج من الأُلْفَة والمودّة والتفاعل، إلى درجة أنّنا لم نعد نعرف مَنْ يَحْرُسُ مَنْ؟ ومَنْ يَرْقُبُ مَنْ؟ الإنسان أم الكون؟