خطبة الجمعة ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية ـ علي والحق


ـ في الثالث عشر من شهر رجب ذكرى الميلاد المبارك لسيد الوصيين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، هذا الإمام الذي احتضنه البيت الحرام في مولده، فكان وليد الكعبة المشرفة.
ـ يمثّل الحقُّ بالنسبة إلى عليّ عليه السلام هدفاً من أسمى الأهداف التي سعى لتحقيقها ما أمكنه ذلك، وكان شديداً في ذلك، لا يداهن، ولا يتنازل، لأن مسألة الحق عنده هي مسألة الحياة، فإذا سلبت الحق من أحد فكأنما حياته تسلب.
ـ وهذا ما تربّى عليه علي عليه السلام في أوج صراع الحق مع الباطل في مكة المكرمة، في أوج قهر المستكبرين للمستعضفين، وحيث نزل قوله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) القلم:9.. وهذا ما شخّصه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في ربيبه علي عليه السلام فقال فيه: (عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ، يدور معه حيثما دار).
ـ وقد قال عليه السلام في بيان هذه العلاقة اللصيقة بين وبين الحق: (بنا ـ بمحمد وآله ـ اهتديتم في الظلماء، وتسنّمتم العلياء ـ ركبتم سنامها ـ وبنا انفجرتم عن السرار ـ كنتم في ظلام حالك وهو ظلام الشرك والضلال فصرتم إلى ضياء ساطع بهدايتنا وإرشادنا ـ .. أقمت لكم على سَنَن الحق في جواد المَضَلة ـ فالحياة كالأرض المليئة بطرق الضلال، وللحق من بينها سنن واحد، أي طريق واحد، وقف عليه علي عليه السلام ـ حيث تلتقون ولا دليل، وتحتفرون ولا تميهون ـ لا تجدون ماءً ـ.. غرب ـ غاب ـ رأي امرئ تخلف عني، ما شككت في الحق مذ أريته.. اليوم تواقفنا على سبيل الحق والباطل).
ـ وهكذا كان علي دائماً على مفرق الطريق بين الحق والباطل لينقذ من أراد النجاة، وليعيد أيضاً الحق إلى صاحبه متى ما أُخذ منه بالقوة والاستكبار وهو القائل: (الذّليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقَّ له، والقويّ عندي ضعيف حتّى آخذ الحقَّ منه). وقال عليه السلام: (فلأنقبنّ الباطل حتى يَخرجَ الحقُّ من جنبه).
ـ يأسف المرء أن يكون موالياً لعلي عليه السلام في العنوان، ومخالفاً له في المضمون.. هناك حالة سلبية متفشية تنبع من روح استكبارية قد لا يشعر بها أحدنا، ولكنها كامنة وتبرز متى ما وجدت البيئة المناسبة لها.. وذلك بأكل مال الضعيف واستغلال ضعفه في عدم دفع حقوقه ومساومته عليها للتنازل عن جزء منها.
ـ هذا الأمر ملاحظ في المماطلة في دفع رواتب المستخدمين الوافدين حتى إذا قرر رب العمل ذلك، ساومهم على المستحقات.. وإلا فليدخلوا في دوامة المحاكم ورفع القضايا.. هذا إذا استطاعوا لذلك سبيلاً.. والله تعالى يقول: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة:188.
ـ وعلى هذا فقس سائر المواقف التي تنبع من الروح الاستكبارية التي يستقوي بها الإنسان على الآخر الضعيف فيأكل حقوقه، مواطناً كان أم زوجة أم يتيماً أم غير ذلك (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) النساء:10. فلو كان علي بيننا فكيف سيتعامل مع هذه النماذج من الناس؟ هل سيداهنها؟
ـ ولنقف عند كلمة أخرى لعلي علي السلام وعلاقته بالحق.
ـ قال عليه السلام: (لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه).
ـ علي عليه السلام يقول: تبصّروا في مواقفكم وردود أفعالكم عند الاختلاف، فليس الموقف واحداً مع كل أحد، بل الدوافع هي أحد المقوّمات التي تحدد طبيعة الموقف ورد الفعل.. ولكن المشكلة أحياناً كثيرة هي أننا نشخصن خلافاتنا العامة ذات البعد الديني أو المذهبي أو السياسي وأمثالها، وهنا الخطورة.. لأن شخصنة هذه الخلافات ستجرّنا إلى اتخاذ المواقف الخاطئة وردات الفعل العنيفة، لأن الإنسان بطبعه يحب ذاته أكثر مما يحب أي شئ آخر، أليس الله تعالى يقول: (فإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) عبس:33-37؟ هذه هي الصورة الحقيقية لمشاعر الإنسان، فنفسه تأتي في المرتبة الأولى، وبالتالي إذا شخصن الإنسان خلافاته في القضايا العامة فإنه سيتطرف في مواقفه، ويحيد عن الحق، لأنه يريد أن ينتقم لنفسه وكبريائه، أو يريد أن يثبت أنه الأقوى أو الأفضل.
ـ وهذا الأمر نلاحظه في العلاقات الاجتماعية، ففي الأسرة قد يكون اختلاف الأطباع من عوامل الخلاف بين الزوجين، أو قد يكون ذلك للطريقة الخاطئة في إدارة الأسرة، وعلى كل حال فالمسألة ليست موجهة للطرف الآخر بشخصه، ولكنه متى ما اعتبرها موجهة إليه بشخصه واعتبرها مسألة كرامة مجروحة وعزة مفقودة فإنها ستتحول
إلى ساحة نزاع عنيف قد يدمر هذه الأسرة.
ـ وهكذا هو الحال في الخلافات السياسية في دائرة التكتل السياسي الواحد حين تبرز الانشقاقات، فيشكل كل طرف تكتلاً صغيراً بمفرده تحت شعار العودة إلى المبادئ وما إلى ذلك، بينما قد يكون الدافع في حقيقته هو الذات.
ـ وكذلك هو الحال في الحراك السياسي حين يتخذ هذا الطرف موقفاً قد يكون خاطئاً، ولكنه اتخذه عن حسن نية وهو يطلب الحق فأخطأه، ولكننا نتعامل معه كما نتعامل مع من يطلب الباطل ويريد الباطل ويعمل للباطل.. لأني أعتبر نفسي مع الحق، فكيف له أن يأخذ موقفاً مغايراً لما اخترته أنا.. وليست المسألة: لمَ يأخذ موقفاً مغايراً للحق!
ـ وعلى ذلك فقس الخلافات الدينية والمذهبية والفقهية التي قد يتعصب لها الإنسان ويعادي من خلالها الآخرين حتى أولئك الذين طلبوا الحق فأخطؤوه، فنواياهم سليمة، ولكن مشكلتهم أنهم لم يهتدوا إلى الحق.. ولكن تبقى المسألة غالباً: كيف لهم أن يختاروا غير ما اخترت أنا!! كيف لهم أن يخالفونني أنا!!
ـ ولكل واحد منا أن يراجع نفسه في منطلقات مواقفه وردود أفعاله تجاه الآخر الذي يختلف معه.
ـ إنني لا أدعو إلى التساهل في أمر التمسك بالحق، ولكنني أقول لا تشخصنوا مسألة الحق والباطل، لأن شخصنتها يحيد بها عن الحق..