المعجزة والكرامة - الشيخ علي حسن


لاشك بأن على كل مسلم أن يؤمن بوجود المعجزة، فالقرآن الكريم حدّثنا عن معاجز الأنبياء عليهم السلام بصورة لا تقبل الترديد أو التأويل، ولكن هل الأصل بالنسبة إلى تصرفات الأنبياء عليهم السلام هو خرق قوانين الطبيعة والإتيان بالمعاجز، بحيث يكون انتظام الأمور وفق القوانين والسنن الكونية هو المخالف لها؟ وما أثر الخلل في تفسير ذلك على الإنسان؟ وهل هناك فرق بين المعجزة والكرامة؟
كي نصل إلى الإجابة على هذه التساؤلات علينا أن ندقق ـ أولاً ـ في مفهوم المعجزة، ثم في الغرض من حدوث المعجزة وحدود ذلك.
تعريف المعجزة:
عرّف العلامة الشيخ جعفر السبحاني في كتابه (محاضرات في الإلهيات) المعجزة بأنها: (أمر خارق للعادة، مع دعوى النبوة، ومقرون بالتحدي، مع عدم المعارضة). وأضاف مفسّراً: (ثم إن الإتيان بما هو خارق للعادة لا يسمى معجزة إلا إذا كان مقترناً بدعوى النبوة، وإذا تجرد عنها وصدر من بعض أولياء الله تعالى يسمى [كرامة] وذلك كحضور الرزق لمريم عليها السلام بلا سعي طبيعي).
إحضار عرش بلقيس:
وأضيف ـ بدوري ـ مثالاً آخر على ما كان خرقاً للعادة دون أن يكون من المعاجز وفق التعريف السابق، وذلك في مثل ما جاء في قوله تعالى: (قالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) النمل:40. فهذا الأمر الذي صدر منه بإحضار عرش بلقيس من سبأ إلى القدس في أقل من لحظة، يحتمل احتمالين:
1. أن يكون توظيفاً للقوانين العلمية التي كان يعرفها ذلك المتحدث، لاسيما بلحاظ قوله تعالى (قالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ) وهو ما لربما يعني أنه كان يمتلك من المعرفة في القوانين العلمية ما أمكنه من توظيفها لتحقيق المطلوب، على تقدير أن (علم الكتاب) هنا هو العلم بـ (كتاب التكوين) أي (القوانين الإلهية المودعة في الطبيعة). وبهذا التفسير لن يدخل الحدث في ضمن المعجزة أو الكرامة، إلا على قول بعض العلماء الذين يفسرون المعجزة بأنها توظيف للقوانين الطبيعية بصورة يعجز عنها سائر الناس.
2. أن يكون خرقاً للقوانين الطبيعية، ولكنه لما لم يكن مقروناً بدعوى النبوة، فلن ندخله في إطار المعجزة، ويمكن أن نسمي ذلك العمل (كرامة) على سبيل المثال.
وبالتالي فلابد من التفريق بين المعجزة بالمعنى العلمي الاصطلاحي، وبين ما هو دارج على ألسنة البعض من حصول (معجزة) بشفاء فلان بواسطة النذر أو بالدعاء وما إلى ذلك.. لابد من أن نكون دقيقين في مصطلحاتنا كي لا تختلط المفاهيم والحقائق ببعضها البعض فتحدث عندنا ربكة على مستوى المفاهيم وعلى مستوى الأفعال.
معاجز الأنبياء:
والمتمعن في القرآن الكريم يدرك أن خرق القوانين بالمعاجز ليس هو الأصل في سلوك الأنبياء، ولذا قرر المحققون أن المعجزة لا تأتي ابتداءً من عند الله أو استجابةً لطلب أحد إلا في ظروف خاصة وشروط معينة، ولابد من وجود مبررات قوية لذلك.
ثم إن المعجزة ليست ملازمةً للنبوّة، فقد بعث الله عدداً من الأنبياء دون أن يسددهم بالمعجزة، ولعلنا نجد مثال ذلك في قوله تعالى على لسان قوم النبي هود عليه السلام: (قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) هود:53، وأحياناً كان الأنبياء إذا ما طلب النّاس منهم معجزةً، لا يستجيب الله لطلبهم، بل يأتي الجواب: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً) الإسراء:93. وهذه نقطة مهمَّة، وهي أنّ الإسلام يعلّمنا أنّ الحياة لا بدّ من أن تسير وفق منطق السّنن، منطق العلّة والمعلوليّة.
إيمان العقل والفطرة:
لذلك، لم تكن الرسالات السماوية تعتمد في دعوة الناس إلى الإيمان على المعاجز، بل كانت تعتمد على الاقتناع بالدليل الفطري أو العقلي، لتكون لفطرتهم السليمة وعقولهم الفاعلة الدور المهم في حركتهم في الحياة.
ولعل إلى ذلك أشار أمير المؤمنين علي عليه السلام حين قال: (وَلَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ، وَمَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ، بَيْنَ جَنَّات وَأَنْهَار، وَسَهْل وَقَرَار، جَمَّ الاَْشْجَارِ، دَانِيَ الِّثمارِ، مُلْتَفَّ الْبُنَى، مُتَّصِلَ الْقُرَى، بَيْنَ بُرَّة سَمْرَاءَ، وَرَوْضَة خَضْرَاءَ، وَأَرْيَاف مُحْدِقَة، وَعِرَاص مُغْدِقَة، وَزُرُوع نَاضِرَة، وَطُرُق عَامِرَة، لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلاَءِ. وَلَوْ كَانَ الاِْسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا، وَالاَْحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا، بَيْنَ زُمُرُّدَة خَضْرَاءَ، وَيَاقُوتَة حَمْرَاءَ، وَنُور وَضِيَاء، لَخَفَّفَ ذلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ، وَلَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ، وَلَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ الْنَّاسِ. وَلكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ، وَيَتَعَبَّدُهُمْ بِأَلْوَانِ الْمَجَاهِدِ، وَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ، إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهمْ، وَلِيَجْعَلْ ذلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ، وَأَسْبَاباً ذُلُلاً لِعَفْوِهِ).
فيمكن أن نستفيد ـ ضمنياً ـ من هذه الفقرة من الخطبة القاصعة أن الله سبحانه لا يريد للناس أن يكون إيمانهم وهدايتهم من خلال ما هو خارق للعادة، بل من خلال القناعة القائمة على الدليل الفطري أو العقلي، بعد أن التخلّي عن الكبرياء الزائفة التي تدفعهم للعناد، فالتكبر والعناد كلاهما من حجب العقل والفطرة.
خلود معجزة القرآن:
ولو تمعنا قليلاً في المعاجز سنجد أنها مؤقتة، إلا القرآن الكريم، فهو المعجزة الخالدة، ولعل ذلك يعود ـ في جانب منه ـ إلى أن تطور الحياة قائم من خلال العلم التجريبي أو التأملي الذي ينتجه العقل، والقرآن يعيد للعقل موقعه في حياة الإنسان، لذا فهناك تناغم بين الإثنين، بين طبيعة تطور الحياة، وبين ما يؤسس له القرآن، فهو معجزة متناغمة مع العقل، بل ومعجزة ترسخ دور العقل والعلم عند الإنسان المسلم.
العقلية المعاجزية:
إن خطابنا الديني غير الدقيق ـ أحياناً ـ في استعمال المصطلحات وخلط المفاهيم وعدم التدقيق في النصوص أدى إلى خلق عقلية يسهل عليها قبول أية قصة أو أي نص يتضمن ما يُدّعى أنه معجزة أو كرامة. على الرغم من أن ذلك خلاف الأصل في الحياة، وإلى هذا أشار المحقق الشيخ محمد هادي الغروي حيث قال: (إن المعجزة فارقة للنظام الطبيعي، فإذا أردت أن تثبت شيئاً مختلفاً مع النظام الطبيعي فمن المنطقي أن تكون خطواتك هذه أكثر صعوبةً وعسراً ممّا أردت أثبات شيء غير خارق منسجم مع الطبيعة. إذاً المعجز لا يثبت إلا بدليل قطعي أو مقارب للقطعي، أي المتواترات أو ما يمكن الاعتماد عليه من النصوص المستفيضة. وهذا معناه أنه لا يمكن اعتماد في مثل المعاجز على أخبار الآحاد). هذا التساهل يؤدي إلى تشويش في المفاهيم وبالتالي يؤدي إلى التأثير على سلوكيات الإنسان... وليس توجه البعض ـ عند المرض مثلاً ـ إلى بعض الدجالين ممن يبيعون الوهم إلا من نتائج ذلك.
الخلاصة:
1. نحن نؤمن بالمعاجز بالمعنى الاصطلاحي، ونعتبرها حالة استثنائية في دورة الحياة وفي تصرفات الأنبياء.
2. الرسالات السماوية تعتمد في دعوة الناس إلى الإيمان على الاقتناع بالدليل الفطري أو العقلي.
3. المعجزة خلاف الأصل، وما هو كذلك فإنه سيحتاج إلى دليل قطعي أو مقارب له.
4. التساهل في قبول أخبار المعاجز والكرامات يؤدي إلى خلق عقلية تختلط فيها المفاهيم، وتؤثر سلباً على السلوك.