النميمة

نموذجان من الناس وُجدا على الدوام في المجتمعات البشرية، نموذج الإنسان الإطفائي الذي يسعى للإصلاح بين المتخاصمين وتقريب وجهات النظر، ونموذج المجرم الذي يشعل الخصومات أو يزيدها اشتعالاً. وقد اعتبرت النصوص الإسلامية النموذج الأول من أرقى النماذج الإنسانية وجعلته في مرتبة المجاهدين، ففي
الحديث: (إنَّ أَجرَ المُصلِحِ بَينَ النّاسِ كَأجرِ المُجاهِدِ بَينَ أَهلِ الحِربِ) بينما اعتبرت النموذج الثاني من أسوأ النماذج، وفي الحديث النبوي: (إِنَّ أَحَبَّكُم إِلى اللهِ الَّذِينَ يُؤلَفُونَ وَيَألِفُونَ وإِنَّ أَبغَضَكُم إِلى اللهِ المَشّاؤونَ بِالنَّمِيمَةِ المُفَرِّقُونَ بَينَ الإخوانِ). وفي آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه: (أَلا اُنَبِّئُكُم بِشَرارِكُم؟ قَالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللهِ. قالَ: المَشّاؤُونَ بِالنَّمِيمِةِ وَالمُفَرِّقُونَ بَينَ الأَحِبَّةِ، الباغُونَ لِلبُرءاءِ المَعايبِ).
مريض معقّد:
النميمة تكشف عن أن الماشي بها ذو نفسية مريضة وشخصية معقدة، وأنه يعاني من عدم الراحة النفسية حين يرى أحداً يتمتع بنعم الله، أو حين يرى العلاقات الإيجابية قائمة بين اثنين أو أكثر، فيكون سعيه لإفساد ذلك أملاً في إطفاء شئ من نيران الحقد التي تتقد في صدره، أو رغبة في أن يعاني الآخرون كما يعاني هو.
والنمّام وإن قد ينجح في بعض سعيه، ولربما يشعر براحة كاذبة لفترة وجيزة، إلا أنه يحكم على نفسه بالإقصاء الاجتماعي تدريجياً ليتحوّل في النهاية إلى شخصية منبوذة، وفي الحديث عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: (من سعى بالنميمة حاربَه القريب ومقتَه البعيد). وسقوطه الاجتماعي قد يمتد إلى أكثر من جهة، وفي الحديث (لا تَجتَمِعُ أَمانَةٌ وَنَمِيمَةٌ) فمن لا يكون مؤتمناً على الكلام لن يكون مؤتمناً على المال. ولعل إلى هذا التدمير الذي يمارسه النمّام لنفسه ـ كما يدمّر غيره ـ وفي أبعاد متعددة أشار الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام بقوله: (الساعي قاتل ثلاثة: قاتل نفسه، وقاتل من يسعى به، وقاتل من يسعى إليه).
عقوبة مغلّظة:
ثم إن لفداحة هذه الجريمة نجد أن النصوص تؤكد على العذاب المغلّظ أيضاً للنمامين، فعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أَبا ذَر، صاحِبُ النَّمِيمةِ لا يَستَرِيحُ مِنْ عَذابِ اللهِ فِي الآخِرَةِ).
وللإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام توصيفاً جميلاً لسلوك الإنسان المؤمن الذي يطلب مكارم الأخلاق حيث قال: (اللهم وَحَلِّنِي بِحِلْيَةِ الصَّالِحِينَ، وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ المُتَّقِينَ فِي بَسْطِ العَدْلِ، وَكَظْمِ الغَيْظِ، وَإِطْفاء النَّائِرَةِ، وَضَمِّ أَهْلِ الفُرْقَةِ، وَإِصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ وَإِفْشاء العارِفَةِ وَسَتْرِ العائِبَةِ وَلِينِ العَرِيكَةِ وَخَفْضِ الجَّناحِ وَحُسْنِ السِّيرَةِ وَسُكُونِ الرِّيحِ وَطِيبِ المُخالَقَةِ وَالسَّبْقِ إِلى الفَضِيلَةِ وَإِيْثارِ التَّفَضُّلِ وَتَرْكِ التَّعْيِيرِ وَالاِفْضالِ عَلى غَيْرِ المُسْتَحِقِّ، وَالقَوْلِ بِالحَقِّ وَإنْ عَزَّ، وَاسْتِقْلالِ الخَيْرِ وَإِنْ كَثُرَ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي).