خطبة الجمعة 1 رجب 1432ـ الخطبة الثانية بعنوان المكر الإلهي


ـ (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ) النحل:26-27.
ـ قد تكون لبعض الكلمات دلالات سلبية في أذهاننا واستعمالاتنا، إلا أنها في دلالتها اللغوية الصحيحة لا تحمل مثل هذا المعنى السلبي، ومثال ذلك كلمة (هلك)، قال تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ) النساء:176، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً) غافر:34. ففي لسان العرب: (هلك: مات)، بينما نجد أن هذه الكلمة لا تستعمل اليوم إلا في دلالة سلبية.
ـ ولذا عندما نريد أن نفهم معنى (المكر) كما في: (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) آل عمران:54، فلابد من العودة إلى المعنى اللغوي عند العرب لهذه الكلمة لنرى هل تحمل دلالة سلبية أم لا.. قال الراغب في المفردات: (المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة، و ذلك ضربان: ضرب محمود وذلك أن يتحرى به فعل جميل، وعلى ذلك قال: وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، و مذموم و هو أن يتحرى به فعل قبيح، قال: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ).
ـ وعلى طول صراع الحق والباطل كان هناك مكر وتدبير بخفاء من قبل أنصار الباطل، فهذا مكر واجهه المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وأنصاره، قال تعالى: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ
الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ، وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) آل عمران:52-54.
ـ ومن قبله نوح عليه السلام يقول: (قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا، وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا) نوح:21-22. ولم يكن مكرهم عادياً بل كان (كُبَّارًا) صيغة مبالغة للدلالة على عظم ما خططوا له.
ـ وهناك حقيقة لابد أن نعيها، وهي أنه مهما كان مكر الظالمين كبيراً، فإنه قابل لأن يكون هباءً منثوراً، قال تعالى: (وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) إبراهيم:46. فالله لا يغيب عنه شيءٌ مما يخفيه الناس من مؤامراتهم وخططهم الخبيثة، وذلك هو ضمان حماية المسيرة الإيمانية (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) بما يمثله من ضخامةٍ ودهاءٍ.
ـ إن غفلة هؤلاء الظالمين عن حقيقة أن (عِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ) فالله محيط بكل شئ، وأن كل الأمور بيده، جعلتهم يتمادون في التخطيط والمكر، ولكن الله لهم بالمرصاد متى ما صدق عباده في إيمانهم وصبرهم وثباتهم ومقارعتهم للباطل وأنصاره، فهذا المكر الإنساني الظالم وإن ألحق الأذى بالمؤمنين لكنه سيزول ولا يدوم، ولن يستقر إلا في أهله (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) فاطر:43. هذه هي الحقيقة القرآنية.
ـ وقد مكر المستكبرون من قريش (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) الأنفال:30 فكانت النتيجة (إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا،
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) النصر:1-3.
ـ وهكذا مكر الصهاينة بكل ما أوتوا من خبث وتحالف مع العالم المستكبر من أجل أن يحققوا حلم إسرائيل الممتدة ما بين الفرات والنيل، فكان احتلالهم لمساحات شاسعة من أرض لبنان في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، إلا أنه اصطدم بواقع المؤمنين الذين ثبتوا وقدّموا التضحيات، فأخزى الله المعتدين و (أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ).
ـ ولكن مرّت ذكرى 25 مايو وانتصار المقاومة اللبنانية البطلة التي اضطرت الصهاينة للهروب أذلاء صاغرين ولم تنل سوى الإهمال أو تغطية إعلامية خجولة لأول انتصار حقيقي للعرب وللمسلمين على الكيان الصهيوني.
ـ وهكذا يتعامل الإعلام العربي بكل إهمال مع حدث آخر له دلالاته الإنسانية والسياسية والأمنية والاستراتيجية المهمة، ألا وهو انهيار المكر الصهيوني والاستكباري في حصار غزة من خلال إعادة فتح معبر رفح بصورة كاملة، ومن خلال انهيار مشروع الجدار الفولاذي الذي كلّف الخزانة المصرية 12 مليار جنيه ـ وباعتراف الخارجية المصرية آنذاك والتي نفت أن يكون التمويل أمريكياً، الأموال التي كان شعب مصر أولى بها وهو يعاني اقتصادياً ـ كل ذلك بادّعاء حماية الأمن المصري، وهو في واقعه لم يكن سوى حماية لأمن الكيان الصهيوني..
لقد مكروا في تحالفاتهم ومشاريعهم، و لكن مرة أخرى (أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ). وإن شاء الله يأتيهم (الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ).
ـ كل هذا حدث بصورة لم تكن متوقعة أبداً ولم تكن في حسبان أي بشر.. لقد تغيّرت الكثير من المعادلات، ودخل الوضع السياسي والأمني في معادلات مختلفة تماماً.. فأي مكر بشري يمكن له أن يثبت في مقابل المكر الإلهي.. ولكن المعادلة دائماً بحاجة إلى أن يتحرك الإنسان أولاً في مواجهة مكر الظالمين والمستكبرين.
ـ انهارت دولة الظلم، وقال الشعب المصري كلمته.. وغاب الإعلام العربي عن الوعي من جديد إلا في القضايا التي ترسّخ الهزيمة النفسية في تهويل قوة الاستكبار ومكره، وترسيخ حالة التدمير الذاتي لمواقع القوة في واقعنا الإسلامي والعربي، لنعطي المجال للاستكبار العالمي مرة أخرى ليربح معركة المكر السيء الذي يتحرّك فيه.. لا من جهة أن مكرَه لا يقاوم، ولكن لأننا استرحنا لمكره، واسترحنا للتخلف المثقف والتخلف المتدين حين عزل المثقف العربي والمتدين العربي نفسه عن الواقع الذي يحيط به، والمستقبل الذي يخططه الآخرون لهم، وفتحنا كل ملفات الماضي لا لنأخذ منها العبر، بل لنستغرق في تدمير أنفسنا بأنفسنا، ولنمكر ببعضنا البعض.. ولكن الأمل باق في الثلة المؤمنة الصابرة المجاهدة الواعية أينما كانت لكي تحقق المعادلة الإلهية (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) ولكي (يَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).