صراع الانتماء - الشيخ علي حسن

لماذا نحوّل انتماءاتنا ـ ولا أخص طائفة بعينها ـ إلى مبررات للصراع؟ وبأي دليل نشرعن هذه الصراعات؟ ولماذا يخيّل إلينا أننا كلّما تعصبنا أكثر كلما كنا متدينين أكثر؟ هل التعصب لما ننتمي إليه هو جزء من تعاليمه أم هو خلل في الفهم.. أم خلل في التربية.. أم خلل في الشخصية؟
الانتماء الشعبي والقبلي:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) الحجرات:13، وهذا نوع انتماء.. قد يتعصب له الإنسان، ولكن الله لا يريد لنا أن نتعصب من خلال ذلك، بل يريد لنا أن نعيش التعارف مع الآخر.. فهل يمكن للإنسان تحقيق الإرادة الإلهية هنا ـ أي التعارف ـ مع ترسخ حالة التعصب؟ وهل يكون الولاء لله بالتعصب أم بالتعارف؟ إن الله سبحانه يريد إغناء التجربة الإنسانية بالتعارف والتواصل والتجربة المتنوعة بهدف الوصول إلى التكامل الإنساني، فهل سيتحقق ذلك من خلال التعصب أم من خلال نبذه؟ ومن الواضح أن النداء بـ (الناس) لا يخص المؤمنين فقط ممن يعيشون وحدة الانتماء كي يقال أن هذا التعارف محدود بدائرتهم فقط، بل هو لكل الناس.
البر بالكافر غير الحربي:
بل الصورة أوضح من ذلك في الآية التالية: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الممتحنة:8، والبر بأن نقدم إليهم الخير بكل مجالاته على مستوى القضايا المادية والمعنوية.. فإذا كان التعصب غير مطلوب مع من هو كافر لم يدخل حالة الحرب معنا، فكيف بمن هو مسلم؟
وصية الإمام الحادي عشر:
وفي وصية الإمام الحسن العسكري عليه السلام: (أوصيكم بتقوى الله والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث وأداء الأمانة إلى مَنِ ائتمنكم من بَرٍّ أو فاجر، وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم. صلُّوا في عشائرهم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدى الأمانة وحسَّن خلقه مع الناس قيل: هذا شيعي فيسرّني ذلك، اتقوا الله وكونوا زينًا ولا تكونوا شينًا، جرُّوا إلينا كل مودّة وادفعوا عنا كل قبيح).
وقد جاءت هذه الوصايا في أجواء التحدي والتعصب المفرط الذي كان يعايشه الإمام، إلا أن هذا لم يثنه عن التأكيد على ضرورة التمسك بأصول التعامل الإنساني المبادئ الأخلاقية الإسلامية. ولم يكن ذلك منه تقيةً اتقاء شر من يكنّ لأنصاره العداء ويتربص بهم الدوائر.. لأنه علل السبب تارة بقوله (فبهذا جاء محمد) بمعنى أن هذا من أسس تعاليمه، وتارة بقوله (قيل: هذا شيعي فيسرّني ذلك) للتأكيد على أن هذا من صلب منهج أهل البيت، وثالثة بقوله: (جرُّوا إلينا كل مودّة وادفعوا عنا كل قبيح) لا على المستوى الشخصي، بل بما يمثلونه من الإمامة والمنهج. فهل يتحقق هذا كله مع التعصب؟
تداعيات أحداث المجلس:
إن القلق من مظاهر وسلوكيات التعصب لم يعد مقتصراً على شريحة الشباب، بل يشمل مَن يُفترض فيهم أنهم يمثلون القدوة لقواعدهم الشعبية ـ ولا أخص هذا الطرف أو ذاك ـ وإنما أتحدث من موقع المسؤولية العامة كمسلم وكمواطن.. عندما يكون الإنسان في موقع القدوة فإن سلوكه وأقواله ستنعكس على المعجبين به والمتعصبين له ولما يمثله من توجّه. ولذا يفترض في كل مَن يضع نفسه في هكذا موقع أن يكون حساساً في تقييم ما يصدر عنه من قول أو فعل، لأن تبعاته لا تخصه وحده.
من جهة أخرى فإن ما جرى في بيت الأمة ـ للأسف ـ هو بمثابة شرارة قابلة لأن تخلق بؤر صراعات لاحقة ولأتفه الأسباب، لما خلقه من شحن في النفوس، يضاف إلى الرصيد السابق للشحن المتنامي من خلال السلوكيات اللامسؤولة من هذا الطرف أو ذاك، وتأثراً بما تعيشه الساحة العربية من حالة اللاإستقرار والشحن المذهبي.
تغليب صوت العقل:
قد يعجبني وينسجم مع عاطفتي كلام من يدافع عن هذا المذهب أو ذاك، أو عن رموز هذا المذهب أو ذلك.. ولكن هل نحن بحاجة إلى مثل هذا الخطاب في مثل هذا الوقت؟ أم نحتاج إلى تغليب صوت العقل، وتجاهل الأصوات التي ترتفع وترتفع حتى إذا لم تجد من يستجيب لها اختفت وتلاشت؟ لقد ماتت فتنة (مركز وذكّر) في العام الماضي في أجواء التحدي الذي أثاره، وذلك بالتجاهل الذي لاقاه حينئذ، وتغليب صوت العقل على العاطفة، فماتت الفتنة في مهدها.. فهل كان الموقف الأنسب الانجرار إلى ساحة الصراع؟
إن الساحة تعيش حالة من تأصيل التعصب المذهبي بشكل متنام، ولما يدور حولنا من أحداث في البحرين وسوريا وانفعالات الساحة العربية عموماً أثر كبير في ذلك، وهذا يستدعي منا جهداً مضاعفاً في هذه الفترة الحرجة، ومسؤوليتنا جميعاً أن نتعامل بمسؤولية دينية ووطنية، لا بالعاطفة والانجرار وراء نداءات المتعصبين.
نداء مكرر:
وسبق أن وجّهت ندائي إلى وزارة الأوقاف وإلى وزارة التربية والتعليم العالي وإلى الإعلام بضرورة التحرك التربوي والإعلامي المدروس من أجل الترسيخ الحقيقي للمواطنة، ونبذ التعصب، من خلال مشاريع مشتركة على مستوى القنوات الفضائية والمدارس والكليات والساحات العامة.. وأكرر هذا النداء مجدداً لعل في البين من يتحمل هذه المسؤولية. ثم إن مسؤولية مَن هم وراء الخطاب السياسي والديني والخطاب الإعلامي إدراك خطورة التلاعب بنيران التعصب.
نحن في هذا البلد مواطنون، لكلٍّ منا موقع في بلده، ولد فيه وعاش ولا بد أن يعيش مع الآخر، فالأرض تنتج للجميع والينابيع تسقي الجميع.. وهكذا في الحياة، فلماذا لا نعيش هذه الحالة ونشعر بأننا نرتبط ببعضنا ارتباطاً عضوياً؟ لماذا يحاول كل واحد منا أن يقيس وطنه على عصبيته، ليسقط في نهاية المطاف هذا الوطن؟