الانتماء والتعصب


ـ لماذا نحوّل انتماءاتنا ـ ولا أخص طائفة بعينها ـ إلى مبررات للصراع؟ وبأي مبرر نشرعن هذه الصراعات؟ ولماذا يخيّل إلينا أننا كلّما تعصبنا أكثر كلما كنا متدينين أكثر؟ هل فعلاً التعصب لما ننتمي إليه هو جزء من تعاليمه أم هو خلل في الفهم.. أو خلل في التربية.. أو خلل في الشخصية؟
ـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) الحجرات:13، وهذا نوع انتماء.. قد يتعصب له الإنسان، ولكن الله لا يريد لنا أن نتعصب من خلال ذلك، بل يريد لنا أن نعيش التعارف مع الآخر.. فهل يمكن للإنسان تحقيق الإرادة الإلهية هنا (أي التعارف) مع ترسخ حالة التعصب؟ يا من تدّعي الارتباط بالله وتعيش الولاء لله، الله سبحانه يريد إغناء التجربة الإنسانية بالتعارف والتواصل والتجربة المتنوعة بهدف الوصول إلى التكامل الإنساني، فهل ستحقق ذلك من خلال التعصب أم من خلال نبذه؟ ومن الواضح أن النداء بـ (الناس) لا يخص المؤمنين فقط ممن يعيشون وحدة الانتماء كي يقال أن هذا التعارف محدود بدائرتهم فقط، بل هو لكل الناس.
ـ بل الصورة أوضح من ذلك في الآية التالية: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الممتحنة:8، والبر بأن نقدم إليهم الخير بكل مجالاته على مستوى القضايا المادية والمعنوية.. فإذا كان التعصب غير مطلوب مع من هو كافر لم يدخل حالة الحرب معنا، فكيف بمن هو مسلم؟
ـ وهذه وصية الإمام العسكري عليه السلام: (أوصيكم بتقوى الله والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث وأداء الأمانة إلى مَنِ ائتمنكم من بَرٍّ أو فاجر، وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم. صلُّوا في عشائرهم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدى الأمانة وحسَّن خلقه مع الناس قيل: هذا شيعي فيسرّني ذلك، اتقوا الله وكونوا زينًا ولا تكونوا شينًا، جرُّوا إلينا كل مودّة وادفعوا عنا كل قبيح).
ـ هل كان الإمام عليه السلام يعيش في أجواء رخاء ودعة كي يقول هذا الكلام ليُفهم منه أن هذا مطلوبٌ فقط في مثل هذه الأجواء؟ أم أن أجواءه كانت أجواء التحدي والتعصب والإثارات على طول الخط؟ مع هذا نجده عليه السلام يوصي بمثل هذه الوصايا لأنها الأصل في التعامل الإنساني وفي المبادئ الإسلامية.
ـ البعض يقول أن هذه الوصايا هي من باب التقية واتقاء شر من يعادينا.. وهذا غير دقيق، فالإمام علل السبب تارة بقوله (فبهذا جاء محمد) وتارة بقوله (قيل: هذا شيعي فيسرّني ذلك) وثالثة بقوله: (جرُّوا إلينا كل مودّة وادفعوا عنا كل قبيح) لا على المستوى الشخصي، بل بما يمثلونه من الإمامة والمنهج. فهل يتحقق هذا كله مع التعصب؟
ـ وأنا أعد لهذه الخطبة قبل أيام، كان تركيزي على سلوك الشباب في الفترة السابقة، حيث يبدو أن الشحن الطائفي وروح التعصب قد أخذت من بعضهم كل مأخذ، ولكن ما جرى قبل يومين في بيت الأمة غيّر مسار ما كنت أعدّه.
ـ فالقلق الآن لا يقتصر على اتجاهات الشباب وسلوكياتهم، بل على من يفترض فيهم أنهم يمثلون القدوة لقواعدهم الشعبية، وليكن واضحاً أني لا أخص هذا الطرف أو ذاك، وإنما أتحدث من موقع المسؤولية العامة كمسلم وكمواطن.. عندما يكون الإنسان في موقع القدوة فإن سلوكه وأقواله ستنعكس على المعجبين به والمتعصبين له ولما يمثله من توجّه. ولذا يفترض في أي شخص يضع نفسه في موقع كهذا أن يحسب ألف حساب لما يصدر عنه، ومن هنا كانت حساسية الإمام علي عليه السلام تجاه الدعوة التي وجهت لوالي البصرة من قبل أحد أعيانها وهي مجرد وليمة، فوبّخه عليها.
ـ من جهة أخرى فإن ما جرى في بيت الأمة ـ للأسف ـ هو بمثابة شرارة قابلة لأن تخلق بؤر صراعات لاحقة ولأتفه الأسباب، لما خلقه من شحن في النفوس، يضاف إلى الرصيد السابق للشحن المتنامي من خلال السلوكيات اللامسؤولة من هذا الطرف أو ذاك، وتأثراً بما تعيشه الساحة العربية من حالة اللاإستقرار والشحن المذهبي.
ـ قد يعجبني وينسجم مع عاطفتي كلام من يدافع عن هذا المذهب أو ذاك، أو عن رموز هذا المذهب أو ذلك.. ولكن هل نحن بحاجة إلى مثل هذا الخطاب في مثل هذا الوقت؟ أم نحتاج إلى تغليب صوت العقل، وتجاهل الأصوات التي ترتفع وترتفع حتى إذا لم تجد من يستجيب لها اختفت وتلاشت.. وتتذكرون فتنة (مركز وذكر) في العام الماضي حيث أطلق التحدي، فلما لم يستجب له أحد، ماتت فتنته.. فهل كان الأفضل الانجرار إلى ساحة الصراع؟
ـ الساحة تعيش حالة من تأصيل التعصب المذهبي بشكل متنام لاسيما بين الشباب، ولما يدور حولنا من أحداث في
البحرين وسوريا وانفعالات الساحة العربية عموماً أثر كبير في ذلك، وهذا يستدعي منا جهداً مضاعفاً في هذه الفترة الحرجة، ومسؤوليتنا جميعاً أن نتعامل بمسؤولية دينية ووطنية، لا بالعاطفة والانجرار وراء نداءات المتعصبين.
ـ وسبق أن وجّهت ندائي إلى وزارة الأوقاف وإلى وزارة التربية والتعليم العالي والإعلام بضرورة التحرك التربوي والإعلامي المدروس من أجل الترسيخ الحقيقي للمواطنة، ونبذ التعصب، من خلال مشاريع مشتركة على مستوى القنوات الفضائية والمدارس والكليات والساحات العامة.. وأكرر هذا النداء مجدداً لعل في البين من يتحمل هذه المسؤولية. ومسؤولية من وراء الخطاب السياسي والديني والخطاب الإعلامي إدراك خطورة التلاعب بنيران التعصب. نحن في هذا البلد مواطنون، لكلٍّ منا موقع في بلده، ولد فيه وعاش ولا بد أن يعيش مع الآخر، فالأرض تنتج للجميع والينابيع تسقي الجميع.. وهكذا في الحياة، فلماذا لا نعيش هذه الحالة ونشعر بأننا نرتبط ببعضنا ارتباطاً عضوياً؟ لماذا يحاول كل واحد منا أن يقيس وطنه على عصبيته، ليسقط في نهاية المطاف هذا الوطن؟