خطبتا الجمعة للشيخ علي حسن بعنوان مبررات الخلود في النار


ـ هل يتوافق العدل الإلهي مع تخليد العصاة في النار؟ إشكال قديم يطرح بصورة متكررة.. فمهما حسبنا عدد هذه المعاصي والمدة الزمنية التي عاشها الإنسان في هذه الحياة فلن نجد أن الخلود جزاء متناسب معها؟ ولابد من التنويه إلى أنني أتحدث عن الخلود في النار، لا الدخول في النار.
ـ والجواب الذي عادة ما يتكرر في البين هو أن هؤلاء العصاة لو أعيدت لهم الكرة في الدنيا لعادوا إلى المعصية من جديد، وهذا بحد ذاته كاف لكي يستحقوا من خلاله الخلود في نار جهنم.
ـ ولكن هذا الجواب لا يقنع الكثيرين، لاسيما بلحاظ أن الله تعالى لا يحاسب على النوايا السيئة، فكيف يعاقب على فعل لم يصدر؟
ـ إذا عدنا إلى القرآن الكريم فإنه يمكن تقسيم الآيات التي تحدثت عمن يستحق الخلود في النار إلى فئات:
1. كفر الجحود المساوق للتكذيب بالآيات: (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة:39. والآيات هي الحجج والأدلة الواضحة البينة من قبيل المعاجز. فليس الكفر لوحده من موجبات الخلود. وإن كان الكافر معاقباً على كفره.. ولكن الخلود أمر آخر.
2. الإصرار والتمادي في إضلال الناس عن عمد بالافتراء على الله: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ، وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة:79-81. فاكتساب السيئات بهذا المستوى الذي يجعل منه محاطاً بالخطيئة مقطوع الطريق عن الخير، فيستحق الخلود.
3. جرائم من نوع معين يأتي بها المسلم فيها من البشاعة والآثار السيئة الشئ الكثير، والله يريد لها أن تختفي من المجتمع، ومنها:
أ. العودة لأكل الربا بعد التوبة: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة:275.
ـ في هذا الإطار يذكر العلامة الطباطبائي أن الله شدد في أمر الربا و في تولي أعداء الدين بما لم يشدد بمثله في شئ من فروع الدين، حتى الزنا وشرب الخمر والقمار والظلم دون الربا وتولي أعداء الدين، وذلك لآثاره التدميرية وما يسببه من فتن تصل إلى حد الحروب وتدمير الحياة البشرية والإفساد في الأرض على نطاق واسع.. ولكن حتى هذا المقدار لا تتحدث عنه الآية بالخلود، بل: (وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وفيه قال العلامة: (المراد به العود الذي يجامع عدم الانتهاء، و يلازم ذلك الإصرار على الذنب و عدم القبول للحكم و هذا هو الكفر أو الردة باطناً و لو لم يتلفظ في لسانه بما يدل على ذلك).
ب. نهب الإرث وأكل مال اليتيم: فبعد أن تحدثت الآيات القرآنية عن النهي عن أكل مال اليتيم وضرورة الالتزام بأحكام الإرث قال سبحانه: (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) النساء:14، والمسألة ليست مجرد عصيان بل تعدّي للحدود، وكأنه إنسان يتجاوز كل القيم والمبادئ والعقيدة والتشريعات من خلال نهب أموال اليتامى، والتلاعب في الإرث وغير ذلك.
ج. قتل المؤمن عمداً ظلماً: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) النساء:93. وعظم هذه الجريمة أمر لا يخفى.. علاوة على ما في استباحة قتل الأبرياء من مفاسد كثيرة.
ـ هذا، وقد ذكر بعض المفسرين كالمرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله أن هذا الخلود في النار قد يكون من باب الاستحقاق، لا من باب الفعلية، فقد يعفو عنهم الله بعد قضاء مدة في العذاب.
ـ وأود أن أنوه هنا إلى أسلوب البعض في الاستشهاد الخاطئ بالآيات على مسألة الخلود في النار، الأمر الذي تترتب عليه حالة من التشويش في المفاهيم، إذ يتم الاستشهاد ببعض الآيات في بعض البحوث بعد اقتطاعها من سياقها، فتعطي مدلولاً غير دقيق في خصوص الخلود في النار، ومن ذلك قوله تعالى: (فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) فيؤتى بها كشاهد على أن المتكبر خالد في النار، الأمر الذي يصعب قبوله من منظور العدل الإلهي. ولكن لو نعود إلى الآية ونقرأها كاملة ستتضح صورة أخرى، قال تعالى: (ثمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ، الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) النحل:27-29، فالكلام عن المشركين المستكبرين المحاربين المعاندين.
2. يستشهد البعض على أن عقوبة الزاني هي الخلود في النار بقوله تعالى بعد ذكر الزنا: (وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) ولكن بقراءة الآية كاملة تتضح صورة أخرى، قال سبحانه: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) الفرقان:68-69.
ـ ثم هناك نقطة أخرى ترتبط بدلالة قوله تعالى: (فأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) هود106-107، فهل تريد الآية أن تقول أن حتى الخلود الأبدي هو أمر نسبي مرتبط بطبيعة السماوات والأرض التي لا تقبل الدوام؟ ثم هل يمكن أن يكون الاستثناء دليلاً على أن الله قد يعفو عن الخلود في النار لأنه فعّال لما يريد وكل شئ بيده؟
ـ اللهم أجرنا من عذابك، وارزقنا رضونك وجنانك إنك سميع مجيب.