خطبة الجمعة لسماحة الشيخ علي حسن - القسم الثاني من الدولتين الدينية والمدنية


الخطبة الأولى:
ـ (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) الزخرف:17-18.
ـ قد يقال أن الضعف هو قدر المرأة وصفتها الملازمة لها، فهي النصف الآخر من المجتمع حيث تتصف أجواؤها بالاستغراق في الحلية والزينة كما عبرت عن ذلك الآية الشريفة.
ـ وهذا صحيح إلى حد معين، إن اختارت المرأة أن تُخمد كل جذوات القوة في فطرتها وشخصيتها.. ولكننا عندما نعود إلى النماذج التي عرضها القرآن للمرأة القوية الصلبة في إيمانها وقناعاتها فإننا سندرك حتماً أن الأمر ليس بالصورة التي نرسمها في مخيلتنا.
ـ قدّم القرآن صورة امرأة فرعون، وابنة عمران في قوة الموقف وتجاوز الضعف الأنثوي.. كما قدّم صورة المرأة المؤمنة في العهد الإسلامي حيث تتخلى عن وطنها وحياتها فراراً بدينها متحملة بذلك كل المخاطر والصعوبات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) الممتحنة:10. ومسؤولية المجتمع المسلم تأمين الحماية والحياة البديلة لها.
ـ وهكذا كانت الزهراء عليها السلام في موقفها بعيد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حين لاثت خمارها على رأسها و اشتملت بجلبابها وأقبلت في لُمّةٍ من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة فجلست ثم أنّت أنّةً أجهش القوم لها بالبكاء، فارتجّ المجلس، ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم ، افتتحت الكلام بحمد الله و الثناء عليه والصلاة على رسوله، فعاد القوم في بكائهم فلما أمسكوا عادت في كلامها.. وألقت على القوم خطبتها المشهورة. ـ وما يجمع كل تلك المواقف هو الانتصار للحق.. هذا العنوان الذي كان يُشغل أهل البيت عليهم السلام حين يرون الباطل وقد ألقى بجرانه واستحكم، فقبله الناس وارتضوه بديلاً.
ـ يدخل ابن عباس على أمير المؤمنين في طريقه إلى حرب البصرة فيجده يخصف نعله، فيبادره الإمام متسائلاً: (ما قيمة هذا النعل؟) فيقول ابن عباس: (لا قيمة لها)، فيعود علي ليقول: (والله لهي أحب إليّ من إمرتكم، إلا أن
أقيم حقاً أو أدفع باطلاً) ثم يقول: (فلأنقّبنّ الباطلَ حتى يخرجَ الحقُّ من جنبه).
ـ الحق الذي خرجت الزهراء عليها السلام لتقف وتخطب مبيّنةً أن القوم قد تركوه، والتمسوا الباطل فناصروه.. هذا الحق يعتبره علي عليه السلام ـ من حيث العنوان ـ لا قيمة له، ولكنه من حيث المسؤولية أمرٌ لابد من النهوض به لتمكينه في الأرض.
ـ ولذا قال: (أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضورُ الحاضر، وقيامُ الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كِظَة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيتُ حبلَها على غاربها، ولسقيتُ آخرَها بكأس أولِها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهدَ عندي من عفطة عنز).
ـ إن الحق الذي خرجت الزهراء عليها السلام لتقف وتخطب مبيّنةً أن القوم قد تركوه، والتمسوا الباطل فناصروه.. هو الذي أخرج الحسين عليه السلام حيث قال: (ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمنُ في لقاء ربِّه مُحقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا بَرَماً).
ـ ولذا فإن من كان في خط الزهراء وخط علي وخط الحسين، كان قوياً في الحق، متجاوزاً كل نقاط ضعفه، لأن الضعف ليس قدراً لا مفر منه، لأن الإنسان، رجلاً كان أم امرأة، يمتلك من الإرادة ما يستطيع من خلاله أن ينصر الحق ويغير الواقع الذي يعيشه سواء على المستوى الفكري أو السياسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي.

الخطبة الثانية:

ـ (لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الحديد:25.
ـ كان حديثي في الأسبوع الماضي حول الاختلاف بين الدولتين الدينية والمدنية، وعن سبب التخويف من الدولة الدينية الإسلامية. وذكرت أن الدولة المدنية قائمة على أمور هي بمثابة أسس لها وهي: سلطة القانون، وترسيخ السلام والتسامح والمساواة فى الحقوق والواجبات، والمواطنة السليمة، والديمقراطية.
ـ بقيت نقطة وهي الفصل بين الدين والسياسة. فوفق الدولة المدنية يمنع (استغلال) الدين لتحقيق الأهداف السياسية.
ـ أقول: إذا كان هذا بمعنى رفض استغلال الدين في السياسة فهو أمر متفق عليه، وقد قال الإمام الحسين عليه السلام مندداً بهذا: (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم). أي أنهم يستغلون الدين
في المصالح الدنيوية، ومنها السياسية.. وهذا أمر مرفوض.
ـ وإن كان المراد عدم الأخذ بأي تشريع ديني، وتحييد الدين عن الحياة العامة بصورة تامة، فلاشك بأننا لا نوافق على ذلك، بل إن الدولة الإسلامية قائمة على أساس ديني سماوي ينطلق من الإيمان بالله خالق الإنسان الذي أراد له أن يعمّر هذه الأرض ويحقق فيها العدالة الاجتماعية، ويضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
ـ ولكن لماذا يطرح أنصار الدولة المدنية هذا العنوان؟
ـ يقول هؤلاء أن مزج الدين بالسياسة يعني الأخذ بالشريعة الإسلامية وبالتالي فإنه يعني أوّلاً تطبيق الحدود، وليس إرساء الحقوق. وأن الحديث عن الحقوق في الإسلام شبه غائب. هناك حاكم ذو سلطة متفردة يكتسب شرعية حكمه من الله بعنوان الخليفة أو ظل الله، وبالتالي فإن كل ما يفعله مشرعن، وهناك رعية يجب عليها أن ترضخ وترضى بما تناله من ظل الله وخليفته.. أما مسألة الحقوق فشبه غائبة وليست لها الأولوية. بينما في الدولة المدنية فالسعي أولاً لإرساء الحقوق، وأما مسألة العقوبات فتأتي كمرحلة متأخرة جداً.
ـ ولكننا نقرأ في بداية عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر: (هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيٌ أَميِرُ الْمُؤْمِنِينَ، مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الاَْشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ، حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ: جِبْوةَ خَرَاجِهَا ـ تأمين الجانب الاقتصادي للدولة ـ وَجِهَادَ عَدُوِّهَا ـ الجانب الأمني ـ وَاسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا ـ التنمية الاجتماعية ـ وَعِمَارَةَ بِلاَدِهَا ـ التنمية المدنية والعمرانية).
ـ ثم يشرع الإمام في تفسير ذلك كله بقوله: (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ.. وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً، فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ.. أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ.. وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الاُْمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ..).
ـ أليس في كل هذا ـ وغيره مما يطول عرضه من أسس السلم الأهلي وطرق التنمية والمشاركة الشعبية وتطبيق القانون والعدالة والتكافل الاجتماعي ـ حديثٌ عن الحقوق؟ اقرؤوا كتاب الإمام علي بتروٍّ وستدركون هذه الحقيقة.
ـ ومن هنا فإن هذا التخويف الدائم من الدولة الدينية الإسلامية لا أساس له، إلا إذا كان المقصود هو تقديم الدولة الطالبانية كنموذج على ذلك.. وهل دولة طالبان هي صورة الدولة الدينية الإسلامية على عهد النبي الذي قال: (هوِّن عليك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة) ودولة علي الذي قال: (أترى إلى هذه النعل، والله لهي أحب إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً).
ـ إن الدولة الدينية الإسلامية لا تعني سلطة الفرد، ولا منطق القهر، ولا إلغاء دور المجتمع والمؤسسات في إدارة الأمور، وليست هي دولة الفوضى وسلب الحريات والتخلف ونهب الثروات.. بل هي دولة القانون والعدالة وحقوق الإنسان والسلم الأهلي والحداثة والعمران والتطوير والتكافل.. فإذا فشلت بعض التجارب، فإن أمثالها من الدولة المدنية قد فشلت داخلياً وخارجياً.. وإذا كانت الصراعات الدينية عبر التاريخ قد قتلت الملايين من البشر، فإن صراعات الدول المدنية في القرن العشرين وحده قد قتلت عشرات الملايين. وإذا كانت بعض المجتمعات المدنية قد نجحت داخلياً في إرساء القانون والعدل والسلم وحقوق الإنسان، فإنها فشلت كل الفشل في تحقيق ذلك حين تعاملها مع سائر المجتمعات التي تعتبرها رقعة الشطرنج التي تتلاعب بأحجارها كيفما شاءت لتحقيق مصالحها الخاصة وهي تطأ بأحذيتها العسكرية على مبادئ العدل والمساواة وحقوق الإنسان.
ـ إنّ الدّين الّذي يجعل الإنسان يتحمّل المسؤوليّة أمام الله، هو الدّين الّذي يدفع به ليعيش الحياة بكامل أبعادها، ويمارس السّياسة من موقع مسؤوليّته أمام الله في إقامة العدل وفي إسقاط الظّلم.