خطبة الجمعة لسماحة الشيخ علي حسن بعنوان الدولة الدينية والدولة المدنية


الخطبة الأولى:
ـ عن الإمام محمد الجواد عليه السلام: (حَسْبُ المرء من كمال المروءة تركُه ما لا يَجْمُلُ به، ومن حيائه ألاَّ يلقى أحداً بما يكره، ومن أدبه ألا يترك ما لا بدَّ له منه، ومن عرفانه علمُه بزمانه، ومن ورعه غضُّ بصره وعفة بطنه، ومن حُسن خُلُقه كفُّه أذاه، ومن سخائه برُّه بمن يجب حقّه عليه وإخراجه حقَّ الله من ماله، ومن إسلامه تركه ما لا يعنيه وتجنّبه الجدال والمراء في دينه).
ـ تحدث الإمام عن عدة عناوين من شأنها أن تهذب السلوك الإنساني ليكون سلوكاً راقياً متزناً، ومنها جاء في هذا المقطع (ومن حيائه ألاَّ يلقى أحداً بما يكره).
ـ يمكن تعريف الحياء بأنه الامتناع عن قول أو فعل مراعاة للطرف الآخر، أو لئلا يُعاب به.
ـ فالحياء من الله ينتج من الشعور بنعم الله سبحانه عليه، وبعلم الله المحيط بكل شئ، فيستحي أن يأتي بما يتعارض مع الإحساس بالنعمة، أو بما يؤدي إلى الموقف القبيح بين يديه سبحانه.
ـ والحياء من الناس ينتج من كراهية انكشاف أمره بما يعكس صورة سلبية عنه تخالف الانطباع المأخوذ أو المراد أخذه عنه، فيستحي ويمتنع من القول أوالفعل لأنه سيعطي انطباعاً سلبياً.
ـ والحياء من الملائكة ـ كما في بعض النصوص ـ من باب أن لها حضوراً واطلاعاً وارتباطاً بالإنسان بنحو ما، فيستحي الإنسان من أن يظهر بصورة قبيحة أمامها وهي المكرّمة من قبل الله، وهي التي تسجل الأعمال وتنقلها.
ـ ولما كان هذا الأمر في كل الأحوال مؤدياً إلى ضبط جانب من السلوك الإنساني بصورة إيجابية، ولو لم يكن بدافع الاقتناع بضرورة الترك للقبيح، ولا بدافع الثواب أو اجتناب المعصية، ولا بدافع التقوى والخوف من التبعات في الآخرة.. لذا كان صفة ممدوحة، وفي الحديث أن (الحياء من الإيمان).
ـ وفي هذا المقطع من حديث الإمام الجواد عليه السلام يشخص مفردة من مفردات الحياء في صورتها التكاملية،
معتبراً أن مراعاة شعور الآخرين هي من تجليات إنسانية الفرد في علاقاته الاجتماعية.
ـ فالإنسان عادة ما يكون أنانياً بطبعه، محباً للخير لنفسه، ولو كان على حساب الآخرين.. أما الإنسان المؤمن فينبغي أن يكون ذا حساسية في هذا الأمر، فتتجلى إنسانيته في أن يقيّم الأفعال والأقوال قبل صدورها، فإن كان يكرهها لنفسه فليكرهها لغيره، والله سبحانه يعتبر أن من يعايشك في المجتمع إنما هو بمثابة نفسك، ولذا عاب على بني إسرائيل العدوان على بعضهم البعض بهذا التعبير: (ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ) البقرة:85.
ـ وبالتالي إن لم تردعك التقوى، وإن لم يردعك قانون وحساب، فليردعك الحياء، فإن من تكامل الحياء أن تكره انعكاس صورة سلبية عنك بأنك أناني لا تفكر إلا في نفسك، ولا تهمك مشاعر الآخرين.
ـ اللهم ارزقنا حياء نبيك صلى الله عليه وآله، ونعوذ بك من دعاء محجوب، ورجاء مكذوب، وحياء مسلوب، إنك سميع مجيب.

الخطبة الثانية:

ـ (لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الحديد:25.
ـ خلال الأشهر القليلة الماضية دار جدال متجدد في الأوساط العربية حول الدولة الدينية والدولة المدنية، وشنت حملة عنيفة ضد الدولة الدينية مخافة قيامها في مصر أو غيرها.. فما الفرق بينهما؟ ولم التخويف من الدولة الدينية؟
ـ الدولة المدنية: جاءت كردة فعل أوروبية على أوضاع الحكم الملكي والمساندة الكنسية لها، حيث انتشر الفساد والفقر والظلم بصورة مفجعة ومقززة، أدت إلى الثورة على ذلك كله والسعي لتأسيس دول مدنية قائمة على أمور هي بمثابة أسس لها:
1. سلطة عليا تطبق القانون وتحفظ الحقوق لكل الأطراف، وتجعل كلمة القانون هي العليا على الجميع.
2. نظام وثقافة مدنية تؤسس لعلاقات تقوم على احترام القانون والسلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة فى الحقوق والواجبات، والثقة فى عمليات التعاقد والتبادل المختلفة.
3. مواطنة سليمة مفهوماً وتطبيقاً، فالفرد لا يُعرّف بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته، وإنما بكونه عضواً في المجتمع يتساوى من خلال ذلك مع سائر الأعضاء في الحقوق والواجبات، ويشارك بفاعلية في تحسين أحوال المجتمع ويخلص للصالح العام، والملكية العامة، والمبادئ العامة.
4. ديمقراطية تسعى لتحقيق الاتفاق العام للمجتمع، ووسيلة لتفويض السلطة وانتقالها من خلال تنافس حر يتحقق من خلاله المصلحة العليا للمجتمع.
ـ أريد أن أعلق على النقاط السابقة وأؤجل النقطة الخامسة.
ـ مجمل الكلام السابق جميل، وأكثر عناوينه حاضرة بقوة في المفاهيم والتشريعات والآداب الإسلامية. وعلى عجالة أذكر نصوصاً في هذا الإطار:
1. بالإضافة إلى الآية التي بدأت بها الحديث حيت تبين أن إقامة العدل هو من صلب أهداف الرسالات السماوية، قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) النساء:105، فبمراجعة سبب النزول الذي طرحته قبل أسابيع في الخطبة، الجميع متساوون أمام القانون ولو كان الخصم من ملة أخرى. والأمثلة التطبيقية في السيرة النبوية والعلوية كثيرة، ومنها محاكمة الإمام علي عليه السلام وهو حاكم الدولة العظمى آنذاك من قبل القاضي، وخصمه يهودي، والتوصيات التي نبه عليها الإمامُ القاضيَ ليراعيها امام خصمين متساويين في الشأن أمام القضاء.
2. أما النظام المدني والثقافة المدنية التي تؤسس لاحترام القانون والسلام والتسامح وغيرها فالنصوص والأمثلة كثيرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أواخر حياته وهو يدعو الآخرين ليقتصوا منه إن كان لأحد حق عليه، وحاشاه في ذلك: (لا يقولن أحدكم إني أخاف الشحناء من محمد، ألا وإن الشحناء ليست من شأني، إن أولى الناس بي رجل كان له عندي شئ من ذلك، فحللني أو أخذه، ألا إن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة).
3. والمواطنة السليمة تتمثل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لا فضل لعربيِّهم على عجميِّهم، ولا لأبيضهم على أسودهم إلاّ بالتقوى) وهذه المفاضلة عند الله لا في المواطنة. وكذلك في خصوص الفاعلية قوله: (خيركم أنفعكم للناس). وقوله: (إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليزرعها).
4. ليس في الإسلام نظام حكم محدد الصيغة لكل مجتمع وزمان، كالملكية مثلاً أو الجمهورية أو غيرهما، ولذا نجد الملكية في مثل: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا) البقرة:247. ولا نجدها في عهد النبي، ولا في عهد الخلافة، فالمهم هو تحقيق العدالة الاجتماعية وسائر العناوين التي ذكرناها. واليوم نجد دولاً مدنية ذات نظام ملكي ولكنها دستورية وديمقراطية. وبالتالي فيبدو أن المسألة في شكلها من المتغيرات، أما الثوابت فهي الأسس والقيم. والمشاركة الشعبية من خلال الشورى بتطويراتها المعاصرة تفسح المجال للمشاركة الشعبية في اختيار السلطة التشريعية والتنفيذية وغيرهما.
ـ هذا كله لا يعني أن الاتفاق تام بين الرؤيتين، فهناك قضايا تحتاج إلى نقاشات ومعالجات فقهية متجددة على ضوء القراءة المتجددة للنصوص وفق تطور الحياة، فهناك عناوين فقهية كبرى تسمح للتغيير مع تغير الظروف.
ـ كما أن نماذج الدولة المدنية في العالم اليوم ليست سواسية، فهناك تجارب عديدة تمارس السلطوية والفساد ونهب الخيرات، كما أنها على المستوى العالمي فشلت في التعامل الصادق والعادل مع كثير من القضايا.
ـ تبقى هناك نقطة أخيرة وهي مسألة عدم الخلط بين الدين والسياسة. فوفق الدولة المدنية يمنع استخدام الدين لتحقيق الأهداف السياسية. وإذا كان هذا بمعنى رفض استغلال الدين في السياسة فهو متفق عليه، وقد قال الإمام الحسين عليه السلام مندداً بهذا: (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم). أي استغلال للدين في المصالح الدنيوية ومنها السياسية. وإن كان المراد عدم الأخذ بأي تشريع ديني فلاشك بأننا لا نوافق على ذلك، بل إن الدولة الإسلامية قائمة على أساسي ديني سماوي تنطلق من الإيمان بالله خالق الإنسان الذي أراد له أن يعمّر هذه الأرض ويحقق فيها العدالة الاجتماعية، وهذا حديث طويل في مفرداته أحببت أن أتطرق إلى جانب منه باختصار لأقول بأن هذا التخويف الدائم من الدولة الدينية لا أساس له، إلا إذا كان المقصود هو تقديم الدولة الطالبانية كنموذج على ذلك.. وهل دولة طالبان هي صورة الدولة الدينية الإسلامية على عهد النبي الذي قال: (هوِّن عليك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة) ودولة علي الذي قال: (أترى إلى هذه النعل، والله لهي أحب إلي ممن إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً).
ـ إن الدولة الدينية الإسلامية لا تعني سلطة الفرد، ولا منطق القهر، ولا إلغاء دور المجتمع والمؤسسات في إدارة الأمور، وليست هي دولة الفوضى وسلب الحريات والتخلف ونهب الثروات.. بل هي دولة القانون والعدالة وحقوق الإنسان والحداثة والعمران والتطوير.. فإذا فشلت بعض التجارب، فإن أمثالها من الدولة المدنية قد فشلت داخلياً وخارجياً.. وإذا كانت الصراعات الدينية قد قتلت مئات الآلاف من البشر، فإن صراعات الدول المدنية في القرن العشرين وحده قد قتل عشرات الملايين.