التجديد الدائم لعاشوراء ـ لسماحة السيد جعفر فضل الله

ثمّة اتّجاه لا يزال يحاذر الخوض في المناسبات الكُبرى كعاشوراء، ولاسيّما عندما تُلاحظ التحدّيات السياسيّة والثقافيّة والاجتماعية وغيرها، ممّا يواجه المسلمين الشيعة؛ لكونهم ـ في التاريخ القريب ـ شكّلوا تحدّياً على أكثر من صعيد، ولاسيّما في مناطق الصراع الحارّ مع الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني الغاصب.. كلّ ذلك تحت حجّة عدم إعطاء مبرّر لأيّ حالة استغلال من أيّ طرفٍ يعمل على الاستفادة من أيّ نقطة ضعفٍ قد يُبرزها الحوار أو النقاش حول مثل هذه الأمور "الحسّاسة".

وقد يرى البعض أنّ دعوات التجديد فيما يخصّ عاشوراء، بالذات، تفتح على حديث الكثيرين على إلغاء الإرث الضخم الذي أمّنته عاشوراء، وقد يحوّلها ـ عند لحظة ما ـ إلى حالة احتفاليّة جامدة، في حين أنّ الأنماط السائدة، ولاسيّما الشعبية ـ بغضّ النظر عن النقاش في بعض ممارساتها ـ جعلت من القضيّة قضيّة حارّة على مستوى صوغ الوجدان الإسلامي الشيعي، وأمّنت عدداً من الشعارات المحوريّة في الحركة السياسية والجهاديّة في قضايا الصراع السياسي والعسكري، إضافةً إلى كونها تمثّل نموذجاً للاقتداء في كثير من محطّات المصائب التي يُمنى بها الإنسان في حياته.

والذي يبدو لي أنّ عنوان التجديد نفسه لا يزال موضع خوفٍ لدى شريحة كبيرة، حيث لا يزال يدلّ لدى تلك الشريحة على مفهوم الثورة التي تريد أن تقلب الأمور رأساً على عقب، في حين لا يمثّل التجديد سوى الحركة الطبيعيّة لوعي الإنسان لثقافته وموقعه من الحياة وسعيه في ذلك السبيل.

ولتوضيح هذه النقطة نحتاج إلى أن نستعيد في الأذهان أنّ ذكرى عاشوراء تمثّل أحد المواسم السنويّة التي تُستعاد فيها قضيّة تكثّفت في لحظتها التاريخيّة عناصر إسلاميّة وإنسانيّة متنوّعة، تمثّل صورة الإنسان الذي يسمو بإنسانيّته عن كلّ أثقال الأرض والهوى، حتّى تخرج تلك اللحظة التاريخيّة لتكون حيّة توجّه الأزمنة المتعاقبة، وتقهر الموت لتحيي ميّت الأجيال المتوالية.

وعند هذه النقطة ـ أيْ وظيفة عاشوراء في صناعة الحياة على أساس قيم كُبرى ـ نُصبح أمام حقيقة واحدة، وهي أنّ على الإنسان نفسه يقع عاتق استثمار أيّ قضيّة من القضايا التي يستوعبها الزمن، وتحويل أيّ ذكرى إلى حركة إنتاج إنسانيّ متنوّع على أكثر من صعيد تستوعبه الذكرى نفسها، وعندئذٍ يكون قياس فاعليّة أيّ ذكرى من خلال قياس كم ونوع ومجال الأثر المنشود من إحيائها في حياة الإنسان.

ونعتقد أنّ الإمام الحسين عليه السلام يُمكن أن يمثّل شخصيّة إنسانيّة إسلاميّة تشكّل مصدر إلهامٍ لحركة الشعوب في قضاياها الكُبرى، ولكنّ لهذا الأمر شروطه الواقعيّة والعمليّة، ولا يُمكن أن يُنتج في عالم الشعارات فحسب. على ضوء ذلك، يبدو أنّ كثيراً من الخائفين من عنوان التجديد، في عاشوراء وفي غيرها، يتصوّرون أن الحديث عن البُعد الإسلامي العام أو البُعد الإنساني سوف يُلغي البُعد الإسلامي الشيعي، علماً بأننا لا نفهم المذهبيّة حالة مغايرة للإسلام، كإطار جامع، ولا ينبغي أن تكون؛ وهذا لا يعني أبداً أنّ على أتباع أيّ فكرٍ ـ وهذا التعبير أفضل من التعبير بالمذهب ـ أن يتنازلوا عمّا يقتنعون به لصالح التماهي مع الأجواء العامّة، أيّاً كانت؛ إلا أنّه لا يعني أيضاً أن على أصحاب أيّ فكرٍ أن يجمدوا عند أمورٍ اكتسبت ـ أو هكذا يوحى ـ صفة المقدّس، حتى بات من المحرّم مناقشتها أو نقدها.

ونحن هنا نؤكّد على ضرورة بقاء البُعد الأوّل، وفي مجاله الشعبي أيضاً؛ لأنّ أيّ تفكير في ضرب الإحياء من شعبويّته هو بنفس المستوى في الخطورة من ترك التجديد فيه؛ لأنّ معنى ضربه هو إلغاء عنصر الحرارة العفويّة في القضيّة العاشورائيّة، وتحويلها إلى مجرّد ذكرى أو مناسبة لاستعادة التاريخ البارد، كفكرة جامدة في ثنايا العقل، أو كتعبير تتراقص عنده جماليّته النفس، من دون أن ينطلق الإنسان، في حرارة الوجدان، ليجسّد قيم عاشوراء، التي هي قيم الإسلام والإنسان، في الحياة، في سبيل الإصلاح المستمرّ المتجدّد.