بين الإبداع والابتداع - الشيخ علي حسن

مفهوم الاجتهاد والإبداع فيه، واضح بشكل إجمالي لكثير من الناس، وكذلك بالنسبة الى مفهوم البدعة، ولكن يقع الارتباك عند السعي للتمييز بينهما عملياً، فما هو إبداع قد يتهمه البعض بأنه ابتداع، وما هو من البدع قد يعتبره البعض أمراً خلاقاً وجديراً بالأخذ. وليست القضية جديدة على الساحة الفكرية والفقهية، اذ لها جذورها التاريخية. وبالتالي كيف يمكن أن نميز بين الاثنين؟

البدعة في القرآن

في القرآن الكريم أربع آيات استعملت كلمة «بدع» باشتقاقاتها، والآية الوحيدة التي لها علاقة بالموضوع هي قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ الاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (الحديد: 27). ومعنى ذلك أنهم ابتدعوا رهبانية لم يكتبها الله تعالى عليهم، اما من حيث المبدأ أو من حيث الطريقة والأسلوب المتبع، ومن الواضح ان الآية قد جاءت في موقع الذم.

البدعة في السنّة

أما اذا جئنا الى الحديث الشريف، وجدنا عدّة محاور تعرضت لها النصوص:
المحور الأول: رفض البدعة، كما في الحديث المشهور بين المسلمين عن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار». وقد ورد هذا الحديث أو ما بمضمونه عن بعض أئمة أهل البيت عليهم السلام.
المحور الثاني: قطيعة أهل البدع، كما في الصحيح المسند الى عمر بن يزيد، عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال: «لا تَصحبوا أهل البدع، ولا تجالسوهم، فتصيروا عند الناس كواحد منهم»، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «المرء على دين خليله وقرينه».
المحور الثالث: مواجهة البدع وأهلها، كما في صحيح داوود بن سرحان، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبّهم، والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم، كيلا يطمعوا في الإفساد في الإسلام، ويحذرهم الناس، ولا يتعلّموا من بدعهم، يكتب الله لكم بذلك الحسنات، ويرفع لكم الدرجات في الآخرة». ولكن ذكر الإكثار من السبّ بل البهتان، بمعنى جواز الكذب عليهم لتشويه صورتهم جعلت في المتن تعارضاً مع مبادئ قرآنية وأخلاقية، مما دفع بعض المحققين الى الشك في صحة هذا الخبر وإن صح السند. فمعارضة نص أو ظاهر القرآن توجب طرح الحديث ولو كان صحيح السند. وهناك أحاديث أخرى تحث على المواجهة ولكن ليس بهذه الصورة.

نظريات للتمييز

هناك عدة نظريات طرحها المحققون كمعايير للتمييز بين البدعة والإبداع:
1 - المعيار الشخصاني: وذلك بأن يكون المعيار هو صاحب القضيّة أو المقولة، فإن كان ممّن لا يملك حق ابداء الرأي باعتباره غير متخصص في هذا المجال فسيكون رأيه بدعة، بينما لو كان مجتهداً في الفقه الإسلامي مثلاً وقدم رأياً فقهياً جديداً، فهنا لا يكون كلامه بدعة، مهما كانت نظريته غريبة.
ويمكن أن يثار أكثر من اشكال ورد على هذا المعيار، وعلى الأقل يمكن أن يقال إننا لا نشك في ضرورة حمل صاحب الفكرة مؤهلات في شخصه، لكن فلنفترض ان غير المؤهل قال بنظرية ضمن أدلة طرحها، فحكمنا ببدعيتها، ثم جاء المجتهد وقال بها، فهل يصبح ذلك الرأي إبداعاً بعد أن كان ابتداعاً، لأن صاحب الرأي تغير؟! من الصعب قبول ذلك، ولعل في ما روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام اشارة الى ذلك حيث قال: «لا تنظر الى من قال، وانظر الى ما قال».
2 - المعيار التاريخي: فإن وجدنا ان هذه المقولة الجديدة لا جذور تاريخياً على مستوى آراء أصحاب الاختصاص، فعندها سنعتبرالمضمون بدعياً، بخلاف ما لو وجدنا لها قائلاً. ووفقاً لهذا لا يعود مضمون البدعة هو المهم من حيث وجود دليل عليه أو عدم وجود دليل، ولا يعود المهم ان يكون صاحب البدعة عالماً مفكراً أو يكون نكرة جاهلاً.
إلا أن هذا المعيار يواجه اشكالات عدة، من بينها:
< ماذا لو أقام صاحب المقولة الجديدة الدليل المحكم من الكتاب والسنة، فهل ستبقى بدعة؟
< ثم إننا بهذا المعيار سنحكم على كثير من فقهائنا المتقدمين والمتأخرين بالابتداع اذ جاءوا بنظريات لم يقل بها من سبقهم من العلماء. ثم ما هو الفاصل الزماني الذي نعتبر ان ما جاء بعده بدعه، وما قبله إبداع؟
< كما أن الأخذ بهذا المعيار سيدفع الى إغلاق باب الاجتهاد إلا في ضمن مقولات المتقدمين، وهذا مرفوض حتماً.
3 - المعيار العرضي: بأن نعرض المقولة على الكتاب والسنة، فإذا لم يرد فيها نص بخصوصه في الكتاب والسنّة، ولم يشمله عام أو مطلق فيهما، فهو اذاً بدعة.
ولكن المشكلة في هذا المعيار ان لكل مجتهد تفسيراً للآية أو الحديث، وعليه سيختلف التقييم، وبالتالي سنرجع الى المربع الأول.
4 - المعيار التنوعي: بأن يتم اكتشاف البدعة عبر سبل ثلاثة:
< أن يرد نص قرآني أو حديثي معتبر من حيث السند والدلالة، ويدل على ان القضية الفلانية بدعة أو ان فلاناً مبتدع.
< ألا يقيم صاحب المقولة نظرية تفسيرية تبرر نسبة هذا الرأي الى الدين.
< أن نعلم ان صاحب هذه المقولة يتعمّد إقحام ما ليس من الدين فيه بنية خبيثة.

الأسلوب الأمثل

ومما سبق تتبين حساسة الموضوع وتداخلاته، الأمر الذي يدفعنا من باب الالتزام بالقيم والأمانة العلمية الى التريث في اتهام أصحاب المقولات الجديدة بالبدعية، وضرورة إدارة عمليّة الاختلاف في الداخل الإسلامي برويّة مع الحفاظ على حق الاختلاف، بشرط ألا يؤدي هذا الاختلاف الى التنازع المضعِف للأمة، وأن يكون شعارنا مع من يخالف هذا الأسلوب هو دلالة قوله تعالى: {لَئِن بَسَطتَ إليّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أنا بِبَاسِطٍ يَدِيّ الَيْكَ لأقتلك انِّي أخاف اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (المائدة: 28).