التلصص - محمود أسد

. التلصُّص:
كلُّ مَنْ يعرفه يقول: إنَّه فضوليٌّ، كثير غلبة. و لو سألتهم لماذا؟ أجابوك: إنَّه يريد أن يعرف الصغيرة و الكبيرة. زوجته تنفر من طباعه، أقرباؤه كذلك لا يريدون الاجتماعَ و هو بينهم. قرَّر هذه المرة أن يتلصَّص على صوت الريح و حركاته.. في هذا اليوم سمعه يقول للموج الصاخب: بفضلي تُكسِّرُ الصخرَ و تُفتِّتُ الحجرَ و تعانق رمال الشاطئ. و في يوم آخر سمعه يقول بخيلاء و هو يرى الثمار اليافعة على الأغصان: لولا ريحي و حركتي ما كنتِ أيتها الثمار و ما كنتَ أيها الربيع الجميل.. و أدار ظهره و مضى.
رُحْتُ أفكِّرُ مليَّاً و أتساءَل: لماذا لا يدخل الريح إلى بيوتنا و نفوسنا؟
في اليوم التالي و مع رحيل آخر نجمة امتنع عني الهواء و الماء و الأولاد!
2. التكامُل في ظلِّ المفارقة:
كنْتُ أرفع صوتي وأنا أتكلَّم، شَعَرْتُ بأني أخذْتُ مجدي بالكلام.. انتبهوا.. من حقِّ شرطة البلدية أن تلاحق المخالفين، وأن تُؤَمِّنَ حركة المرور على الأرصفةِ المشغولةِ والمزدحمة. ومن حقِّها أن تبعدَ البائعين الجوالين، وأن تكون العين الساهرة.. هي تلاحق طفلاً يبيع الكعك والحلوى، وتصادِرُ بعض البضائعِ من شيخ عجوز، تأخذها، وترميها أرضاً وتدوسُها على مرأى من أعين القلعةِ ودار الحكومة كي يكونوا عبرةً لغيرهم. ومن حقِّ شرطة البلدية أن تقمع المخالفات العمرانية التي شوَّهَتْ أجمل شوارع المدينة وأحيائها.. فمن حقِّنا أن نشكرها ونقدِّر متابعتها وجدِّيَتَها. هذا ما تحدَّثْتُ به لطلاّبي. ولم ألتفِتْ إليهم وأنا ألقي كلماتي. ولم أنتبه إلى حركاتِ أيديهم وأرجلهم وأعينِهم. بعضُهم أبدى ارتياحاً وبعضهم أبدى تململاً فلم يعجبه كلامي، وآخر قال وهو جالسٌ في آخر القسم: يا أستاذ، وهذه البسْطات والبرّاكات والعربات في منتصف الشارع، ألم يروها؟ وهذه الانتهاكات للأرصفة والحدائق وهذه الحفر؟ شَعَرْتُ بالحرج والضيق قلتُ له: نعم كلامُك صحيحٌ ولكنني تركْتُ الحديثَ عنه لغيري وبذلك نكمل بعضنا!
3. الدّمعتان
مروان قرأ الإعلان.. لم يُعلِّقْ عليه.. مدَّ يده إلى جيبه.. وتحسَّس بقيّة الجيوب مُمْتعِضاً.. أخذ نَفَساً عميقاً.. قبض على عيْنيهِ بالجرم المشهود.. إلى جانبه صاحبه في الوجد والهمِّ خالد.. قرأ الإعلان.. دخلا معاً إلى المعرِض.. الحركة لا بركة وراءها.. الإقبال قليل.. لا جديد في المعروضات.. والأسعار مرْتفعة.. العين بصيرة واليدُ قصيرة.. خالد اقتنى بعد اختيار.. ودفع.. خرجا معاً.. تحاورا واتّفقا.. ثم تفرّقا.. حاول خالد الدخول خفْيَةً لكنّ زوجه حاصرتْه ورمتْ بصرها إلى داخل الكيس.. فانهمرتْ دمعةٌ ثانية.. ولم تَجد الدمعتان مَنْ يفكُّ لغزهما.. ولا تسألْني عن الدّمعة الأولى.