لنجعل من الرثاء الحسيني أداة للتواصل الحضاري لسماحة الشيخ حميد المبارك ـ قاضي من البحرين


لا ينفك البعض عن القول إن مراسم عاشوراء تساهم في الشحن السلبي وتشديد اللغة الطائفية وتعميق المسافة بين المذاهب الإسلامية، ولعلهم يستندون إلى بعض الممارسات أو الأطروحات المقارنة لإحياء الذكرى، ولكن ذلك لا يجب أن ينعكس سلباً على أصل تلك الشعيرة الحقة، التي يمكن أن تكون منطلقاً لاستثارة المعاني الإنسانية الراقية، وأساساً لإنماء روح القبول والتفاهم، ليس بين المسلمين فحسب، بل بين بني الإنسان جميعاً.

ولأن الرثاء الحسيني أداة من أدوات التعبير والدلالة على مضمون النهضة، فمن الممكن أن يحقق تواصلاً إيجابياً مع الآخرين إذا روعي فيه اقتضاءات تطور أدوات التعبير والدلالة بحسب الزمان والمكان. فصحيح أن الدين متقوّم باللغة والمضمون معاً، ولكن بينهما فرقاً من جهة أن المضمون يتسم بنوع من الثبات ولكن اللغة في طور التحرك دائماً، وذلك لأن تغير أساليب الدلالة والإيحاء هو السمة البارزة للتطور الثقافي لدى الأمم والذي لا يتوقف أبداً، ولذلك كان الإصرار على ثباتها لا يخلو من عبثية مضرة بالتفهيم والتفاهم.

وحصل الاتفاق على ثبات لغة النص القرآني لأنه يمثل نصا دستوريا يجب أن يكون له ثبات واستقرار، فتلك ضرورة لا مناص منها ولا تنسحب على سائر مساحات اللغة وأدوات التعبير. فالرثاء ـ في الحقيقة ـ هو لغة يراد منها إيصال المعاني إلى المخاطب بها، فمن اللازم أن تكون دلالاته مفهومة لدى المخاطب ليتحقق التواصل المطلوب، وذلك يستدعي مراجعة دائمة لآليات الرثاء لكي تناسب التطور الثقافي الذي يؤدي إلى اختلاف أرضية القبول والاستجابة. فتوجد إذن في هذا العصر حاجة حقيقية إلى استحداث أدوات جديدة تعكس الجوانب الإنسانية في القضية بشكل مباشر وشفاف، إذ تحظى تلك المساحة باهتمام كبير لدى الثقافة المعاصرة.

ولعل دراسة فاحصة للاستتباعات والعوارض التاريخية للنهضة الحسينية، تكفي لتكوين انطباع بأنها تمثل نموذجاً إنسانياً فريداً بين الثورات التي عرفها التاريخ، إذ إن طبيعة أية ثورة هي أنها محاولة لتغيير الواقع القائم ونفي شيء موجود وإحلال وضع آخر محله، فلذلك تصطدم عادة بعقبات المخالفين لها والذين يهددون مصالحها، فينتج عنها الكثير من الكراهية والتلوين داخل المجتمع الواحد. وكذلك، فالثورة في العادة حال هادرة ومفعمة بالعاطفة والأحاسيس، ولذلك فقد تقترن بسلوكيات غير عقلانية ومصاحبة لضياع بعض الحقوق، وتضر بعض الأبرياء. وكذلك يكون لكل ثورة قادة يحركون مفاصلها ويوصلونها إلى غاياتها، ولذلك فهي تولّد تلقائياً طبقية غير قابلة للاجتناب، وقد يعمد بعض القادة إلى منح أتباعهم وعوداً كثيرة لأجل تحريكهم في اتجاهها ودفعهم إلى التجاوب معها، وقد تصطدم هذه الآمال بصخرة الواقع الذي قد ينكشف بأنه أقل بكثير من سقف الطموحات.

وكل هذه الاستتباعات تشكل سيرورة لازمة للنهضات أو امتداداتها في طول الزمان، مهما كانت النهضة حقانية أو ربانية، وذلك لأن تلك العوارض قد لا تنشأ عن مصدر النهضة، بل تتوالد من خلال تفاعل الأتباع البشريين عبر التاريخ. ولكن، من المهم الإشارة إلى أن نقاء المصدر له تأثير لافت على نوعية تلك السيرورة وكونها تستتبع الحد الأقل من العوارض المشار إليها... فهذا ما نجده بوضوح في نهضة الحسين عليه السلام إذ نقاء المصدر وخلوه من أي شائبة في المساحة الإنسانية، فهي نهضة لا تختلف فيها الأهداف المعلنة عن غير المعلنة، بل امتازت بالوضوح الإعلامي التام وتجردت عن عامل الدعاية.

فعندما خطب الحسين في مكة قال: «ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته موطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى»، وقد تفرق عنه أقوام من العرب لما علموا بأنه لا يعد بمال ولا سلطان.

وفي ليلة العاشر من المحرم جمع أنصاره وقال لهم: «إن هؤلاء يطلبونني أنا ولو ظفروا بي لذهلوا عن غيري، فتفرقوا في سواد هذا الليل واتخذوه جملاً»... وهكذا نجد الحسين وهو في أوج الأزمة والضيق وقلة الأنصار وكثرة الخصوم، لا يغفل عن جزئيات مشكلات أصحابه مع شدة المحنة وهول الموقف، فعندما وصل الخبر إلى محمد الحضرمي ـ أحد أصحاب الحسين ـ بأن ابنه قد أسِر في ثغر من الثغور مع المشركين، قال له الحسين: «إنك في حِـل من بيعتي فاذهب واعمل على فكاك ولدك»، لكنه أصر على البقاء إلى جانب الإمام فأعطاه خمس حلل ليستعين بها على فكاك ولده.

وهكذا، يمكننا من خلال التركيز على المساحات الإنسانية في نهضة عاشوراء أن نجعل، من إحياء الذكرى، منطلقا لبناء الأواصر الإسلامية والإنسانية، وأن نلفت أنظار سائر الأمم إلى هذه الصفحة الناصعة من تاريخ الأمة الإسلامية.

تاريخ النشر 17/01/2009