لحن الحياة - الشيخ علي حسن

لا يغيب عن ذهني مقطع الفيديو لطفل فلسطيني ـ لا يتجاوز العاشرة من عمره ـ وهو يفر من ملاحقة العسكري الإسرائيلي المدجج بالسلاح.. ليتغير المشهد فجأة حين تجلّت (إرادة) هذا الطفل في أن يعكس الأمور.. فإذا به يستدير.. يلتقط قطعة حجر.. ويشرع في مهاجمة مطارده.. وإذا بالعسكري يفر مولياً والطفل يلاحقه!
سيدة عزلاء:
وقبل سنتين تقريباً، ومن خلال هذه الصفحة نشرتُ صورة سيدة، وهي تواجه لوحدها ـ وبيدها العزلاء ـ عدداً كبيراً من العسكريين المدججين بالسلاح.. لتدفعهم بعيداً عن شئٍ ما لا تبيّنه الصورة.. إلا أنه من الأهمية عند هذه السيدة لدرجة أن (إرادتها) تجلّت في تلك اللحظة في أن تواجه ولا تستسلم، ولو كان كل الناس من حولها يقفون موقف المتفرجين لا أكثر.
شاب تونسي:
وقبل أيام طالعتنا وسائل الإعلام بصورة الشاب التونسي الذي يقفز في وجه قوات مكافحة الشغب أبان ثورة شعبه التي ألهمت سائر الشعوب العربية لتتحرك من أجل تغيير واقعها إلى ما هو أفضل.. (إرادة) هذا الشاب تجلّت في هذه اللقطة الحماسية لتقول لكل عربي:
إذا الشـــعبُ يومــاً أراد الحيــاة فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ
ولا بــــدَّ لليـــل أن ينجـــلي ولا بــــدّ للقيـــد أن ينكســـرْ
ومــن لــم يعانقْـه شـوْقُ الحيـاة تبخَّـــرَ فــي جوِّهــا واندثــرْ
فــويل لمــن لــم تَشُــقهُ الحيـا ة مــن صفْعــة العــدَم المنتصـرْ
كـــذلك قــالت لــيَ الكائنــاتُ وحـــدثني روحُهـــا المســـتترْ
ودمــدمتِ الــرِّيحُ بيــن الفِجـاج وفــوق الجبــال وتحـت الشـجرْ:
إذا مـــا طمحــتُ إلــى غايــةٍ ركــبتُ المُنــى، ونسِـيت الحـذرْ
ولــم أتجــنَّب وعــورَ الشِّـعاب ولا كُبَّـــةَ اللّهَـــب المســـتعرْ
ومن يتهيب صعــود الجبــــال يعش أبَــدَ الدهــر بيــن الحــفرْ
فعجَّــتْ بقلبــي دمــاءُ الشـباب وضجَّــت بصـدري ريـاحٌ أخَـرْ...
وأطـرقتُ، أصغـي لقصـف الرعـودِ وعــزفِ الريــاحِ، ووقـعِ المطـرْ
وقـالت لـي الأرضُ - لمـا سـألت: أيــا أمُّ هــل تكــرهين البشــرْ؟
أُبــارك فـي النـاس أهـلَ الطمـوح ومــن يســتلذُّ ركــوبَ الخــطرْ
وألْعــنُ مــن لا يماشــي الزمـانَ ويقنـــع بــالعيْشِ عيشِ الحجَــرْ
هــو الكــونُ حـيٌّ، يحـبُّ الحيـاة ويحــتقر المَيْــتَ، مهمــا كــبُرْ
فـلا الأفْـق يحـضن ميْـتَ الطيـورِ ولا النحــلُ يلثــم ميْــتَ الزهـرْ
ولــولا أمُومــةُ قلبِــي الــرّؤوم لَمَــا ضمّــتِ الميْـتَ تلـك الحُـفَرْ
فــويلٌ لمــن لــم تشُــقه الحيـا ة، مِــن لعنــة العــدم المنتصِـرْ!
خلُدتَ أيها الشابي بهذه القصيدة الخالدة.. (لحن الحياة).. وكأنك قد ادّخرتها لهذه الأيام حيث تغنّت بها الجماهير، وكانت شعار عزتهم و (إرادتهم).
حفّارو القبور:
وللأسف، وفي خضم كل هذا التلاحم الإنساني في تفاعل الشعوب مع تجليات (الإرادة) العربية المنبعثة من جديد، بعد أن راهن أكثر الناس على أنها ستبقى ساكنة في قبرٍ احتفره لها جلادوها، وارتضته لأمد طويل مثوىً، بدا وكأنه سرمديّ.. في خضم هذه الملحمة الرائعة تنبعث رائحة النفَس الطائفي لبعض الأقلام التي تأبى إلا وأن تشوّه الحقائق، وتشوّش الأفكار، وتنفخ في الروح الطائفية المقيتة، سعياً وراء انتصارات وهمية لهذه الطائفة أو تلك.. وما فتئت تلك الرائحة تزكم أنوف أولي الألباب الذين يعون أن مَن وراء تلك الأقلام ليسوا سوى أداة من أدوات حفّاري قبور الشعوب المضطهدة!