المتخاذلون ـ مقال للشيخ علي حسن غلوم

لشيخ علي حسن صور الخذلان من المشاهد الرئيسة في أحداث ثورة سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي عليه السلام، فممَّن خذله أولئك الذين كاتبوه قائلين: (أما بعد، فقد اخضرّ الجناب، وأينعت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئت فأقدِم، على جند لك مجند)، حتى إذا استجاب لدعوتهم خذلوه، ومنهم أولئك الذين ساروا معه من المدينة ومكة، حتى إذا أيقنوا أن الأمور تسير نحو معركة غير متكافئة الأطراف تخلوا عن نصرته، ومنهم النفر الذين عرض عليهم الإمام النصرة وأقام عليهم الدليل والحجة، فلم يستجيبوا له وهم يعلمون أن من واجبهم ذلك.
وهذه الصور ليست بدعاً في أحداث الثورة الحسينية، ففي القرآن الكريم مشاهد عديدة لصور من الخذلان مارسها المنافقون ومَن كان في قلبه مرض، بل هو مشهد حاضر في كل صراع على مر التاريخ، ما دامت الأنانية وحب الذات والاستغراق في الشهوات حاضرة بقوة في سمات الإنسان، التي لا تنفك عنه إلا إذا ارتقى وسما.

صور قرآنية:
قال تعالى ?وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون? (التوبة 86-87)، وقال عز اسمه: ?وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً? الأحزاب/13.
والمشهد البارز والأبشع من صور الخذلان حين يتحول الموقف الافتراضي بالولاء والنُّصرة إلى موقف العداء ومساندة العدو، قال تعالى ?يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين? المائدة 51- 52.

وعي وحذر:
فالمسألة ـ وفق ما تطرحه الآية الكريمة ـ ليست مسألة ترسيخ حالة من المشاعر الحاقدة والأعمال العدوانية تجاه أهل الكتاب، لأن الإسلام يفرض ـ أساساً ـ على المسلم أن يؤمن بكل الرسل والرسالات السماوية السابقة، بل القرآن الكريم مجّد المؤمنين من أتباعها كما في قصة أهل الكهف وأصحاب الأخدود وغيرهم، وهو الذي أكّد بعض الجوانب الإيجابية عند النصارى في سلوكهم العملي ?ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون? المائدة/82، ولكن القرآن يريد أن يكون واقعياً في رسم ملامح العلاقة معهم، لاسيما أنهم التزموا سلوكاً عدوانياً ناشئاً من عدم إيمانهم برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولسعي الإسلام نحو تطبيق منهجه على صعيد الحكم، ولطبيعة الدعوة الإسلامية التي تحدثت عن سلبياتهم وبعض معالم انحرافهم وتحريفهم لقواعد الدين والشريعة.
ثم إن طبيعة التحالفات والمعاهدات القائمة لا على أساس الوحدة الفكرية من شأنها أن تدفع أطرافها إلى توخي الحذر واليقظة والترقب وتأمل الأوضاع، خصوصاً في تلك الأجواء المشحونة بالمؤامرات والمكائد التي مارسها اليهود على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالسذاجة والاسترخاء مرفوضان في هكذا ظروف.

خذلان وعداء:
إلا أن طائفة من المنافقين الذين في قلوبهم مرض من الذين كانوا يعيشون ضمن المجتمع الإسلامي أصرّوا ـ بعد جلاء الصورة ـ على تولّي الأعداء، بل سارعوا للارتباط بهم وهم يلهثون خلفهم خوفاً وطمعاً، حتى تحوّلوا إلى سلاح بيدهم ضد إخوانهم المسلمين، وأضحوا أبواقاً تكرر ما يلقيه الأعداء على مسامعهم من شبهات وفتن، في سعي لزعزعة الموقف الداخلي، وتفريغ المسلمين من عناصر القوة الروحية التي يتمعتون بها، وإضعاف ثقتهم بالله عزوجل وبالقيادة النبوية الحكيمة، وتشكيكاً في الوعد الإلهي بالنصر المحتوم..
وبانتظار ذلك اليوم الذي يتحقق فيه النصر للمسلمين أو يندفع به كيد أعدائهم، وعندها يفتضح أمر هؤلاء لينقلبوا خزايا يعتصرهم الألم والهلع، وليواجهوا اللوم والتقريع من إخوانهم، ولتذهب أعمالهم هباءً منثوراً.

المشهد المعاصر:
وما يجري في غزة، مثال حيّ للصورة القرآنية في الخذلان، وهو يعرّي مواقف المتخاذلين، ويكشف مدى الأذى الذي يلحقونه بالأمة.. فبماذا يبرّر أولئك اللاهثون وراء السلام الزائف، والساعون لكسب ود كيانٍ يقتات على آلام الآخرين، ويعتاش على دمائهم، ولا يعرف إلا لغة الرصاص، وإذا أراد أحد قادته أن يحقق مكسباً سياسياً، كان العدوان الدموي على الأبرياء من الأطفال والنساء سبيله لكسب قلوب الناخبين؟!

أنصار الحسين:
وبين المشاهد القرآنية للخذلان، والمآسي الحية التي تعيشها الأمة الإسلامية، تبرز الصور البطولية في النصرة وثبات الموقف، والصبر والمرابطة، والعزة والكرامة، تلك التي رسمها أنصار أبي الأحرار الإمام الحسين عليه السلام.. ثلّة مؤمنة بربها، واثقة بقيادتها، راسخة في ولائها، واعية لمسؤوليتها، حققت على أرض كربلاء أعظم ملحمة عرفها تاريخ البشرية.. فتية لا يتجاوزون المائة في قبال آلاف من الجند، صرخوا في وجه الطغيان: كلا.. لن نقبل الهوان.. وهيهات منا الذلة.. يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.. إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عُرُباً كما تزعمون.
هذه الصورة الخالدة للولاء الحقيقي عند الحسين وأنصاره هو الذي يدفع العارفين بالثورة الحسينية إلى إحياء ذكراهم كل عام، لأن في إحياء هذه الذكرى تمجيداً لأولئك الأبطال، وترسيخاً للمفاهيم العظيمة التي ترجموها إلى مواقف بطولية عزّ نظيرها، فألهمت الأحرار على مدى التاريخ.

تاريخ النشر 03/01/2009

جريدة الوطن الكويتية ـ صفحة منتقى الجمان