أيها الأحبة ـ 14

نستعرض فيما يلي القسم الرابع عشر من الحوار الذي أجري عام 2000 مع المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله قدس سره، وهو بمثابة مجموعة من الأفكار والوصايا التي تتناول القضايا الحياتية المختلفة، وقد تم نشرها أخيرا في كتيب تحت عنوان (أيها الأحبة)، وبدورنا ننشر مختارات منها في حلقات:
س: ربما يشعر الإنسان بشوق إلى كثير مما يسمع عنه في عالم الخلود. ما هو أكثر ما يمكن أن تشتاق إليه في ذلك العالم؟
المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله: من الصعب جداً أن يستحضر الإنسان في الدنيا أجواء العالم الآخر، لأن عالم الدنيا هو عالم الحس الذي قد يرتبط بالمحسوسات، التي قد تجتذب مشاعره وأحاسيسه واهتماماته، بينما قد لا تكون المسألة بهذا الحجم في الآخرة. لذلك ما أتصوره الآن هو أن أتحسس الله في وجداني، حيث أملك عالماً جديداً في العيش معه وفي التطلع إليه وفي الحديث معه، لأننا ـ ونحن في الدنيا في شوقنا إلى الله ـ لا نستطيع أن نتمثل شيئاً منه إلا من خلال أحاسيس الفطرة التي نبقى نعيش معها في ضباب، بالرغم من اليقين والاطمئنان لوجوده ورعايته للكون كله. إن الله يحدثنا في القرآن عن شيء روحي في معناه بحيث يمثل المستوى الأكبر من كل نعيم الجنة، وذلك في قوله تعالى: (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ) التوبة:72. إنني أشتاق إلى أن أتحسس أكثر من ذلك، وأن أعرف الله أكثر من ذلك.
أما قضية لذّات الجنة ومجتمع الجنة، فإنني أتمثلها بما يمثلها القرآن، وقد أجد في نفسي شوقاً أن أعيشها هناك: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ، سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) الرعد:23-24، وفي قوله تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) الحجر:47. إن من الطبيعي أن يشتاق الإنسان إلى أحبابه من خلال ما يستشعره في الدنيا من خلال فقدهم والشوق إلى لقائهم من جديد. من الطبيعي أن يشتاق الإنسان إلى الحياة الطبيعية التي أدمنها وتعود عليها، باعتبار أن الوحدة تمثل غربة للإنسان.. ولكني وأنا في الدنيا أعيش حركية العمل: أن أجري نحو الهدف، أن أعاني، أن أتحرك.. وأتساءل: هل هناك مجال للعمل هناك؟ أو أن الحياة هناك سعادة لا طعم فيها للشقاء، كما يصورها لنا القرآن، راحة لا مجال فيها للتعب؟ ولكن هل يبقى الإنسان هناك فارغاً، أو هناك ما يملأ عقله وفكرة وشعوره بحيث لا يفكر بشيء آخر؟ وأستحضر في ذلك قوله تعالى: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) السجدة:17.. هل نكون من هؤلاء؟ .. أو الحديث المعروف: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر). ربما يتحرك شوق الإنسان إلى ما في الآخرة من خلال المفردات التي يعيشها في الدنيا، ولكن هل هي مفردات الآخرة؟ وهل أن الحديث عن الجوانب الحسية في الآخرة حديث عن حقيقة حسية هناك كما هو ظاهر في القرآن؟ أو أنه حديث عن تقريب للصورة من قبيل وسائل الإيضاح، لأن عالم الآخرة هو عالم آخر في كل صورته وفي كل تطلعاته وفي كل لذاته؟ عالم بعيد عن الحس، ومنفتح على النور؟ ماذا هناك؟ إننا نشتاق إلى نتعرف ماذا هناك.