عدل.. حنان.. وصدق - الشيخ علي حسن - بورنموث ـ المملكة المتحدة

كنت أتمنى لو أنني متواجد في هذه الأيام في الكويت، الأيام التي يحتفل فيها الوطن بعيده الخمسين وبالذكرى العشرين للتحرير من همجية نظام صدام المقبور ، فلا الطبيعة الخلابة ولا الجو البديع يمكنهما أن يُبدلا الإنسان وطناً بوطن، ولا السلوك الراقي واللطف في التعامل يمكنهما تعويض الإحساس بالارتباط الوثيق بالأرض التي تمتد فيها جذوره لترتقي أفرعه في السماء بزهو الانتماء إليها.. إن من أشد الإجحاف أن يُطالَب الإنسان الذي لا يجد في الأرض وطناً سوى الكويت أن يبحث لنفسه عن وطن جديد بذريعة أنه من (البدون).. قد تتقطع جذوره وهو يُقتلَع قلعاً.. وقد تتكسر أفرعه وهو يصارع للبقاء.. وقد يُقذَف به بعيداً رغماً عنه، ولكن تلك الجذور المتبقية وتلك الأفرع المتناثرة ستبقى تربطه بالوطن الذي أحبَّه.. وعلى أمل أن نرى عاجلاً الحل العادل لهذه المشكلة التي كلما تم التسويف في معالجتها، ازدادت تعقيداً.
عبقرية البيان:
ولا أستطيع في خضم كل هذا الحراك غير المعهود الذي شهدته وتشهده المنطقة بقوة الزلزال أن أتجاوز كلمات أمير المؤمنين علي عليه السلام وهو يوجّه ولاته وموظفي الدولة والعاملين على الصدقات والخراج (الضرائب) فيقدّم إليهم أسساً رصينة وتوجيهات حكيمة وقيماً راقية، لا تقتصر روعتها على الجانب البياني منها، وإن كان القارئ لا يمكنه تجاوز ذلك، وبتعبير الأديب جورج جرداق: (من عهد له إلى محمد بن أبي بكر حين قلده مصر، وفيه تذكير بأحوال الدنيا وترغيب للولاة في أن يعدلوا ويرحموا لئلا يُعذَّبوا، وذلك بأروع ما تجري به ريشة العبقرية من بيان) فإن تلك الروعة تتجاوزها إلى المضمون الذي قال عنه جرداق في مناسبة أخرى: (من رسالة كتبها للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها في عهد خلافته، وهي من جلائل رسائله ووصاياه، وأجمعها لقوانين المعاملات المدنية والحقوق العامة والتصرفات الخاصة في نهج الإمام، كما أنها من أروع ما أنتجه العقل والقلب جميعاً في تقرير علاقة الحاكم بالمحكوم، وفي مفهوم الحكومة، حتى أن الإمام سبق عصره أكثر من ألف سنة بجملة ما ورد في هذه الرسالة - الدستور، من إشراق العقل النير والقلب الخير).
صدق وثبات وعدل:
وفي فلسفة عميقة لرؤى الإمام عليه السلام حول الحُكْم اعتبر جرداق أن الإمام عليه السلام انطلق من القانون الكوني الذي يختزن العناصر الثلاثة: الصدق والثبات والعدل، ليقيس على ذلك نظام الدولة التي لا بد لها أن تكون صورة مصغرة عن هذا الكون، ولذا قال عليه السلام: (وأعظم ما افترض من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله لكل على كل، فجعلها نظاماً لألفتهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرعية. فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عزَّ الحق بينهم واعتدلت معالم العدل وجرت على أذلالها [وجوهها] السنن، فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة. وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة وظهرت معالم الجور وتركت محاج السنن فعُمل بالهوى وعُطلت الأحكام وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عُطِّل ولا لعظيم باطل فُعل. فهنالك تذل الأبرار وتعز الأشرار وتعظم تبعات الله عند العباد).
الحكام والحنان الإنساني:
إن مسألة الحكم ليست مسألة قوانين مجردة، بل قوانين يرعاها الحنان الإنساني.. فعنوان الأخوة والاشتراك في الإنسانية هو العنوان الذي يجمع الحاكم بالولاة وبالعاملين وبالرعية، ولذا قال: (أشعِر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم. ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).
والحكم يتطلب المراقبة الدائمة والمضاعفة للنفس، لأن عوامل التغيير للأسوأ حاضرة بقوة، والإنسان في خضم مشاغله قد يغفل عن تلك التغيرات، ليتفاجأ في وقت ما أنه لم يعد ذلك الحاكم القريب من الناس، الذي يمتلك قلوبهم بالحب والعطف.. الحاكم الذي كان يمنّي نفسه بأن لا يكرر الأخطاء التي وقع فيها من سبقه، فإذا به يكتشف أن من يحيطون به قد بنوا من حوله أسواراً انعدمت من خلالها الثقة بين الحاكم والرعية، وتقطّّعت سبل التواصل بينه وبينهم. قال عليه السلام: (فإن حقاً على الوالي أن لا يغيّره فضلٌ ناله، ولا طَوْل [قوة] خص به، وأن يزيده ما قسم الله له من نعمه دنواً من عباده وعطفاً على إخوانه).
طرداء الموت:
ويجعل الإمام علي عليه السلام الصورة واضحة جليّة أمام الولاة والحكام إذ ينبّههم إلى الحقيقة التي يهربون منها، وهي التي لا مفرّ منها: (وأنتم طرداء الموت: إن أقمتم له أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم، وهو ألزم لكم من ظلِّكم! الموت معقود بنواصيكم، والدنيا تُطوَى مِن خلفكم، فاحذروا ناراً قعرها بعيد، وحرُّها شديد، وعذابُها جديد، ليس فيها رحمة ولا تُسمع فيها دعوة).