ولادة أمّة شاهدة - الشيخ علي حسن

لم تكن ولادة النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولادة فرد، بل كانت ولادته إيذاناً بولادة أمة جعلها الله سبحانه الشاهدة على سائر الأمم، فهي في محل القطب من الرحى بالنسبة إليها، وإلى هذه الأمة يرجع الجميع، لا من خلال الصفة القومية، ولا من خلال الصفة الجغرافية، ولا من خلال أي عنوان آخر، ولكن من خلال الدور الذي إذا أخلصت له استطاعت أن ترتفع إلى المستوى الأرقى في المواقع الإنسانية، وإذا لـم تخلص له فإنَّها إذا لـم تنزل إلى المواقع الدنيا، فعلى الأقل لن تحصل على قيمة الارتفاع: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) البقرة:143.
إعداد وتهيئة:
كانت الفترة ما بين مولده الميمون ومبعثه الشريف فترة إعداد وتهيئة، ليكون الإنسان الذي يجسّد في انطلاقاته العملية وفي علاقاته العامة شخصية الإنسان الذي يمكنه أن يقوم بمسؤولية الرسالة.. بل الرسالة الخاتمة التي تكتنز كل مقومات البقاء والاستمرار والتناغم مع الحياة البشرية مهما تقدمت في المجالات المختلفة. (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) الشورى: 52-53.
وقد حملت تلك الفترة تحديات عديدة لمحمد الطفل (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى) الضحى:6-8، فكانت عين الله ترعاه، وملائكته تحرسه وتحفظه، وهو ما عبّر عنه الإمام علي عليه السلام حين قال: (ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره).. ثم محمد الشاب اليافع الذي أثبت لقريش أنه الإنسان الذي يمكن أن تثق بكلماته وبأفعاله وبعقله الكبير، ولذا اطمأن المتنازعون على وضع الحجر الأسود في مكانه بعد ترميم الكعبة المشرفة حين دخل عليهم محمد الشاب الذي عرفوه بالصادق الأمين وبصاحب الحكمة، فأشار عليهم بما أنهى به خصومتهم التي كادت أن توقع بينهم القتال.
فاصدع بما تؤمر:
ولما حمل مسئولية الرسالة وصدع بأمر الله واستقام كما أراد له ربه أن يستقيم، تحقق على يديه ما لم يكن يخطر على بال أحد.. أن يكون يتيم قريش هو صاحب القوة التي يدعو من خلالها كسرى وقيصر ومَن دونهما كي يدخلوا في الإسلام، وينازل بها الفرس والروم دون أن يهاب شيئاً في هذا الطريق.. يأتيه المدد المعنوي والمادي من الغيب، ويعينه في تحقيق إنجازاته أصحابٌ آمنوا به وبرسالته (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) الفتح:28-29.
قيادة حريصة:
وما كان ذلك الالتفاف حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليتحقق لولا الصفات القيادية التي تحلى بها.. ولا أعني هنا خصوص الكاريزما وقوة الشخصية، بل من خلال ما جاء في قوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) التوبة:128، فهو الرسول القائد الذي يحمل همّ النّاس ويتألـم لآلامهم، إذا تعب النّاس من حوله فإنَّه يتعب لتعبهم لما يحمله من همّ كبير تجاههم، فيفكر في حلّ مشاكلهم وكيفية التخفيف منها، وما ذلك إلاَّ لأنَّه يعزّ عليه المشقّات والمصاعب والمتاعب التي يحملونها في حياتهم، فيحرص على التخطيط لحلّها، ويسخّر لأجل ذلك كلّ طاقاته ليدفع عنهم كلّ التحديات التي توجَّه إليهم. يحرص عليهم أن يكونوا الأعزاء أمام مَن يريد أن يذلهم، والأحرار أمام مَن يريد أن يستعبدهم، والعلماء أمام مَن يريد أن يؤصّل فيهم الجهل، وهكذا، يحرص عليهم ليرفع مستواهم، وليخطّط لهم السير في خطّ العدالة.
القيادات المعاصرة:
إنَّ اللّه سبحانه عندما حدّثنا عن الحالة النفسية للرسول تجاه أمته، كأنَّه يريد أن يقول لكلّ القيادات: كان رسول اللّه يفكر في الأمّة، يتألـم لآلامها، فكونوا ممّن يتألـم لآلام الأمّة. كان رسول اللّه لا يعيش لشخصه ولكنَّه كان يعيش لأمّته، فكونوا الذين تعيشون للأمّة ولا تعيشون لأشخاصكم. كان رسول اللّه حريصاً على الأمّة لا يريدها أن تضيع، فكونوا الحريصين عليها. وكان الرسول الرؤوف الرحيم بالمؤمنين فكونوا الرؤفاء الرحماء بهم.
ولو كانت القيادات المعاصرة التي اضطرت للانصياع إلى إرادة شعوبها فانحنت لحركة الجماهير المليونية باتجاه نيل حريتها واسترجاع شئ يسير من كرامتها وعزتها وشخصيتها التي استنزفتها سياسات قادتها خلال العقود المنصرمة، لو كانت تلك القيادات عاشت ولو جزء بسيطاً من الوصف القرآني لقيادة النبي، لما آلت أمورها إلى ما هي عليه اليوم.. وهكذا هو الأمر لسائر القيادات التي تسحق شعوبها بقوانين الطوارئ والأحكام العسكرية وغير ذلك من العناوين التي تحولت من حالات ثانوية طارئة تفرضها بعض الظروف العصيبة إلى أوضاع أصيلة تحكم من خلالها بالحديد والنار.
والرسالة اليوم في ضمن الأحداث المتسارعة وانتقال شرارة الثورة من بلد إلى آخر وتكرار ذات السيناريو: أنّ أمام تلك القيادات فرصة التغيّر الحقيقي ليكونوا القادة الذين يشعرون بحق أنهم من الشعب وإلى الشعب، عزيزٌ عليهم عنت رعيتهم، حريصون كل الحرص أن يحققوا لهم آمالهم وطموحاتهم في حياة إنسانية شريفة تكفل لهم كرامتهم وحريتهم وعزتهم.. وإلا فعليهم أن يفكّروا بكل جدية أن رياح التغيير القاهرة قادمة لا محالة.. إن لم يكن اليوم، فالغد لناظره لقريب.