شركاء في الجريمة - الشيخ علي حسن

الظلم من أكبر الخطايا وأشد الجرائم التي يرتكبها الإنسان، حتى كان الخلاص الدنيوي في نهايات المسيرة البشرية هو رفع الظلم وإقامة العدل على وجه الأرض، وعلى يدي الغائبَـيْن المنتظَريْن: المسيح والمهدي عليهما السلام.
ثم سيكون رفع الظلم وإقامة العدل هو عنوان يوم الحشر والحساب، قال عز اسمه: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا، وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) النساء:123-124.
الراضون بالظلم:
إلا أن المثير في بعض ما قرره القرآن الكريم أنه اعتبر الراضين بالظلم ـ ولو جاءوا بعد قرون من الحدث ـ اعتبرهم شركاء في الجريمة على الرغم من المبدأ العادل الذي رسّخه بقول الله تعالى: (وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الإسراء:15.
فقد خاطب القرآن اليهود الذين عاشوا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكأنهم هم الذين عاصروا من سبقه من الأنبياء فارتكبوا ما ارتكبوه من جرائم ومعاصي. قال سبحانه: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ، وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) البقرة:49-50.
وفي الحديث المأثور: (العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم)، والكلمة المأثورة عن الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة: (الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كل داخل في باطل إثمان: إثم العمل به وإثم الرضا به).
فقد يرى البعض في ذلك انحرافاً عن المفهوم الذي تقدمه الآية 15 من سورة الإسراء في فردية المسؤولية، لأن اعتبار الراضي بالظلم أو بالعمل المنحرف شريكاً للظالم والمنحرف، يعني تحمل البريء ذنب المجرم.
رفع الشبهة:
الحقيقة التي يجب أن ندركها بكل وضوح أن الإسلام يريد اقتلاع الظلم من جذوره الفكرية والشعورية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الرضا عبارة عن مشاركة ولو على المستوى النفسي في عملية الظلم، و(الرضا بالظلم يعدّ جريمة معنوية داخليّة، تشوّه روحية الراضي، وتعدّه ليكون مشروع ظالم مستقبلي، من خلال ما يمثله الرضا من اعتبار الظلم لديه حالةً طبيعية لا تثير في فكره أية حالة سلبيّة مضادة، بل تثير حالة شعورية إيجابية، الأمر الذي يجعله يمارس الظلم لدى أوّل فرصة للقوّة تمكنه من الظلم، كما أنها تحقق للظالم حمايةً معنويةً تحرس له ظلمه، إذ إنها تحيطه بالمشاعر الحميمة التي تقوّي نفسيته وتدعم موقفه. وهذا ما عبر عنه الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة، حيث قال: [إن ما يجمع الناس الرضا والسخط. وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّهم الله بالعذاب لما عمّوه بالرضا]). فضل الله: تفسير من وحي القرآن.
العقوبة القانونية:
وإذا كان جزاء الراضين بالظلم هو العقوبة الإلهية في الآخرة أو في الدنيا، وذلك بما ينزله الله من العذاب عليهم، أو على الرفض المعنوي لهم من قبل الناس، فيذمّونهم على ذلك، إلا أنه لا يمتد إلى معاملتهم بما يعامل به الظالم من عقوباتٍ جزائيةٍ أو جنائيةٍ. وبالتالي فإن الراضي بالقتل لا يُقتَل كما يُقتل القاتل، ولا يُرجم أو يُجلد الراضي بالزنا كما يحدث للزاني. وهكذا نجد أن الجانب القانوني للمسألة على مستوى الشريعة ينسجم مع الآية، فلا يُحاسب الإنسان من ناحيةٍ قانونيةٍ على أفكاره ومشاعره المنحرفة في ما يتصل بالتعاطف مع الانحراف نفسياً من دون أن يشارك فيه، بل يكفي في ذلك الذم المعنوي والإنكار النفسي والفكري.
جرائم المستضعفين:
ومن هنا تكون المسألة أكثر وضوحاً في تحميل القرآن المسئولية لأولئك الذين يشاركون في الجريمة تحت وطأة الاستضعاف وادعاء انعدام الاختيارات، في محاولة للهروب من طائلة العقاب، قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) النساء:97.
الساحة العربية اليوم:
إن ما شهدته بعض الساحات العربية في الأسابيع المنصرمة ـ وما ستشهده ـ من حراك قوي وحاسم ضد الظلم والاستضعاف يجب أن يدفع إلى إعادة قراءة الطرح القرآني في هذا الإطار ـ لاسيما الآيات التي تتحدث عن سنن الله الاجتماعية والسياسية ـ حتى من قبل أولئك الذين يمارسون الظلم.. ليس من باب الالتفاف على مطالب الشعوب المستضعفة وكسب الوقت، بل للعودة إلى العقل والتوبة إلى الله سبحانه (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى) النازعات:17-19. وإن الأمل يكاد يكون معدوماً: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) يونس:90-92.