خلاف الطوسي ـ الشيخ علي حسن غلوم

نهَج بعض الفقهاء أسلوب التأليف الفقهي الجامع للمسائل الخلافية بين المذاهب الإسلامية، وذلك على نحوين: النحو الأول: الفقه المقارن، أي جمع آراء المجتهدين في شتى المسائل الفقهية على صعيد واحد من دون إجراء موازنة بينها. النحو الثاني: الخلافيات، أي جمع الآراء الفقهية المختلفة وتقييمها والموازنة بينها من خلال أدلتها وترجيح بعضها على بعض. وقد تحدث ابن خلدون في مقدمته عن الخلافيات فكان فيما قال: (وهو لعمري عِلم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم ومران المطالعين له على الاستدلال عليه، وتآليف الحنفية والشافعية فيه أكثر من تآليف المالكية.. وللغزالي فيه كتاب المآخذ، ولأبي زيد الدبوسي كتاب التعليقة..).



شيخ الطائفة:



وللشيخ محمد بن الحسن الطوسي الملقب بشيخ الطائفة (385 هـ - 460 هـ) كتاب في هذا الباب أسماه (الخلاف)، وقبل التعرف على القيمة العلمية له، لابد من التعريف بالمؤلِّف، فقد قال فيه العالم الأزهري الشيخ محمد أبوزهرة (ت 1974م): (كان شيخ الطائفة في عصره غير منازع، وكتبه موسوعات فقهية وعلمية، وكان علمه بفقه الإمامية وكونه من أكبر رواته على علم بفقه السنة، وله في هذا دراسات مقارنة، وكان عالماً على المنهاجين الإمامي والسني). وقال العلامة الحلي (ت726 هـ): (شيخ الإمامية ووجههم ورئيس الطائفة، جليل القدر عظيم المنزلة ثقة صدوق عارف بالأخبار والرجال والفقه والأصول والكلام، وجميع الفضائل تُنسب إليه، صنّف في كل فنون الإسلام، وهو المهذّب للعقائد في الأوصول والفروع). كان الشيخ الطوسي مقيماً ببغداد وكان داره منتجعاً لروّاد العلم، وبلغ الأمر من الإكبار له أن جعل له الخليفة العباسي القائم بأمر الله كرسيّ الكلام والإفادة، ويمثّل أرفع درجة علمية في ذلك الزمان. ولما دخل السلاجقة بغداد وشبّت بها نار الفتنة، غادر الطوسي إلى النجف الأشرف ليبدأ بذلك عهد جديد لتلك المدينة التي احتضنت الرفات الطاهر لأمير المؤمنين علي عليه السلام، فأسس فيها الحوزة العلمية التي مازالت مناراً للعلم ومنبراً للبحث. وللشيخ الطوسي مؤلفات عديدة من أهمها: تهذيب الأحكام، الاستبصار، المبسوط ويشتمل على ثمانين كتاباً، التبيان في تفسير القرآن، العدة في أصول الفقه، الرجال، فهرست كتب الشيعة، المفصح في الإمامة، وغيرها.



كتاب الخلاف:



توخّى الشيخ الطوسي عند تصنيفه لهذا الكتاب القيم طرح آراء فقهاء المسلمين، ولم يقتصر على الفقه الإمامي والمذاهب الأربعة، بل تعداه إلى فتاوى الأوزاعي والثوري وأبي بكر الأصم وابن جرير الطبري والشعبي وغيرهم. كما أنه تناول المسائل بالبحث والمناظرة، ومن ثم ذكر الدليل الذي يؤيد القول الذي اختاره، والملاحظات التي سجّلها على سائر الآراء، مع مراعاة الأسلوب العلمي الرصين والنقاش الهادف.

وعند الاطلاع على مقدمة المؤلف يكتشف الباحث مقدار الجهد المبذول في هذه الموسوعة، فقد قال في مقدمته: (سألتم أيدكم الله إملاء مسائل الخلاف بيننا وبين من خالفنا من جميع الفقهاء من تقدم منهم ومن تأخر، وذكر مذهب كل مخالف على التعيين وبيان الصحيح منه وما ينبغي أن يعتقد، وأن أقرن كل مسألة بدليل نحتج به على من خالفنا، موجب للعلم، من ظاهر قرآن، أو سنة مقطوع بها، أو إجماع، أو دليل خطاب، أو استصحاب حال ـ على ما يذهب إليه كثير من أصحابنا -، أو دلالة أصل، أو فحوى خطاب. وأن أذكر خبراً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي يلزم المخالف العمل به والانقياد له، وأن أشفع ذلك بخبر من طريق الخاصة المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام. وإن كانت المسألة مسألة إجماع من الفرقة المحقة ذكرت ذلك، وإن كان فيها خلاف بينهم أومأت إليه، وأن أتعمد في ذلك الإيجاز والاختصار، لأن ذلك يطول، وربما ملّ الناظر فيه).



نموذج:



مسألة: 279 (الجماعة في خمس صلوات سنة مؤكدة وليست واجبة ولا فرضاً لا من فروض الأعيان ولا من فروض الكفايات، وهو المختار من مذهب الشافعي عند أصحابه، وبه قال أبوحنيفة وأصحابه والأوزاعي ومالك. وقال أبوالعباس بن سريج وأبوإسحاق: هي من فرائض الكفايات كصلاة الجنازة. وقال داود وأهل الظاهر وقوم من أصحاب الحديث: إنها من فروض الأعيان، ثم اختلفوا فقال داود: واجبة ولكن ليست بشرط، وقال قوم من أصحاب الحديث: شرط، فإن صلى فرادى لم تصح صلاته). ثم ساق الشيخ الطوسي الدليل على فتواه فقال: ?دليلنا إجماع الفرقة، وأيضاً براءة الذمة، وإيجاب الجماعة وفرضها في هذه الصلوات يحتاج إلى دليل، وأيضاً روى نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ «= الفرد» بسبع وعشرين درجة). وروى أبوهريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءاً). وابن مسعود (بتسع وعشرين درجة). فوجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاضل بين صلاة الجماعة وصلاة الفذ، ولفظ أفضل في كلام العرب موضوع للاشتراك في لا شيء، وأن أحدهما يفضل فيه، فلو كانت صلاة الفذ غير مجزية لما وقعت المفاضلة فيها).



التفاتة:



إن أمثال هذه المؤلفات والمؤتمرات والندوات المشتركة من شأنها أن تثري البحث العلمي وتقرّب وجهات النظر وتصبغ الاختلاف المذهبي بصبغة علمية بعيدة عن التشنج والممارسات الإقصائية التي تعمّق الشرخ. ومنا إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي بذلت جهداً كبيراً في إعداد الموسوعة الفقهية بنسختيها الورقية والإلكترونية دون أن تأخذ بعين الاعتبار الفقه الجعفري. قال المستشار المصري عبدالحليم الجندي: (والفقه الشيعي واحدٌ من النهرين الذين تُسقى منهما حضارة أهل الإسلام، وإليه لجأ الشارع المصري في هذا القرن لإجراء إصلاحات ذات بال في نظم الأسرة المصرية).














تاريخ النشر 24/01/2009

جريدة الوطن الكويتية ـ صفحة منتقى الجمان