لا إكراه في الدين ـ الشيخ علي حسن

(لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة:256.
ظاهر الآية أن الإسلام لا يريد لنا أن نُكره أحداً على الالتزام بأية قناعة تخص الدين والعقيدة، لأن مسألة الدين هي مسألة قناعة فكرية، والقناعة تحتاج إلى الدليل وإلى الوجدان ليقبلها، ولن يتحقق ذلك من خلال الضغط والقوة والإكراه.
طريقان واضحتان:
مسألة الإيمان تتصل بالإنسان نفسه، وطريق الرشد كما طريق الغي ـ أمامه ـ واضحة بعد كل البيان الذي قام به القرآن وبجهود النبي صلى الله عليه وآله، وعلى الفرد أن يختار ويقرر مصيره (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) الإنسان:3. (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) الكهف:29. ولكن هذا لا يعني أن المؤمن يتساوى مع الكافر، ولذا جاءت الآية بعد ذلك مباشرة لتبين هذه الحقيقة: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا).
نفي الإكراه:
تكرر في عدة آيات نفي إكراه الناس على الإيمان، من ذلك قوله سبحانه: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) يونس:99، أي الله سبحانه وهو الخالق الذي بيده كل شئ، لم يكره أحداً على الإيمان وجعلهم مختارين، فهل يريد من أحد ـ ولو كان شخص النبي ـ أن يكرههم عليه؟
نعم مسؤولية الرسول ومن يحمل همّ الإسلام أي يبلّغوا، فهم يملكون الكلمة، ويملكون استخدام الأسلوب الأحسن، ويملكون تحريك الأجواء حول الآخرين كي يهتدوا فيؤمنوا.
الآية وحكم الردة:
ولكن لا يمكن تجاوز الموضوع بهذه البساطة، فهناك أسئلة كثيرة تطرح في البين، ومنها:
س1: كيف نفسر الضغط الذي يُمارَس على من آمن أو من ولد مسلماً كي لا يكفر؟! وكيف نوفق بين دلالة الآيات وبين ترتيب العقوبات على المرتد؟
ج1: لابد من التفريق بين الإيمان والإسلام، فالإيمان حالة فكرية وجدانية تنبع من القناعة، أما الإسلام فالتزام خارجي في السلوك. فما دام الفرد ضمن حدود المجتمع الإسلامي فلابد له أن يحترم أنظمته ويلتزم بقوانينه، ومن حق المجتمع أن يحمي نفسه بوضع القوانين الملائمة. (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) الحجرات:14. فالأعراب ـ وفق الآية ـ قبلوا الدخول في المجتمع الإسلامي بمجرد الشهادتين ولم يؤمنوا، وبالتالي إن التزموا بالقوانين العامة فسيكون لهم ما لسائر المسلمين المؤمنين، وأما مصيرهم في الآخرة فإلى الله هو يحاسبهم على ما في قلوبهم. وإن خالفوا القوانين العامة فسيقع عليهم العقاب القانوني. وبالتالي فإن من أراد أن يغير دينه ويرتد فهذا شأنه وهو يتحمل وزره أمام الله في الآخرة، ولكن لا يحق له الإعلان عن ذلك والتجاهر به ضمن حدود المجتمع، وإلا سيكون مخالفاً للقانون.
حق المواطنة:
س2: ولكن قد يحتج هذا الفرد بأنه مواطن، ويريد البقاء في وطنه وأن تكون له حرية الإجهار بمعتقده الجديد؟!
ج2: هذا الإجهار مخالف لقانون المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية ـ على فرض وجودها ـ وهي قائمة على أيديولوجية وعقيدة محددة، ولها قوانينها التي تصوغها الشريعة المنبثقة من هذه الأيديولوجية، ومن جملة تلك القوانين مسألة الردة وأحكامها، وعلى أفراد المجتمع الالتزام بذلك القانون العام.
س3: هل تخافون إلى هذه الدرجة؟ أليس هذا دليلاً على ضعف قناعاتكم؟
ج3: نحن نعتقد بأن الإسلام يملك الإجابة المقنعة على كل الأسئلة والإشكالات، ولكن يُخاف على الناس البسطاء الذين لا يحملون رؤى واضحة حول الدين، كما يُخاف من عدم قيام المسؤولين على الشأن الدعوي بمسؤولياتهم بالصورة المطلوبة، ولذا لابد من المحافظة على بعض أفراد المجتمع من الانزلاق في مهاوي الردة من خلال بعض التشريعات، وهذا هو شأن كل المجتمعات باختلاف أديولوجياتها.
س4: فهل يُسمح لمسلم أن يناقش ويظهر قناعاته بحرية حول القضايا الدينية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ضمن المجتمع الإسلامي ما لم يرتد؟
ج3: نعم من حق كل أحد أن يسأل ويناقش، بل ويطرح آراءه في إطار علمي بعيداً عن التهريج والسباب والسخرية والإساءة، وعليه أن يسمع للآخرين كما يريد من الآخرين أن يستمعوا إليه. وليس لأحد التعرض إليه بسوء مادام الأمر في هذا الإطار البحثي العلمي. (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ) التوبة:6. فإذا كان من حق المشرك أن يكون له الأمان، فكيف بالمسلم؟
تراث غني:
وقد نقلت كتب الحديث حوارات عديدة جرت بين بعض الأئمة عليهم السلام والزنادقة وغيرهم، وجرى بعضها عند البيت الحرام، وكان بعضها يتناول التوحيد الذي هو أساس العقيدة الإسلامية.. تم كل ذلك بكل حرية.
ثم كيف يمكن لحملة الرسالة أن يعالجوا المشكلات الفكرية والعقيدية التي تدور في أذهان الآخرين ـ لا سيما الشباب ـ إن تم الحجر على حريتهم في التعبير؟ بل هل يمكن الحجر على العقول؟ وهل يمكن تكميم الأفواه، لاسيما في هذا الزمن بكل وسائل الانفتاح فيه؟