ذكرى وفاة النبي


قال تعالى مخاطباً رسوله: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) الزّمر:30. وقال أيضاً: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) الأنبياء:34. في الثّامن والعشرين من صفر، نلتقي بذكرى وفاة النبيّ، الذي انقطع بموته وحيُ السّماء، وفُقِدَ أحد الأمانيْن لأهل الأرض، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) الأنفال: 33.
وقد تعرض بعض المؤرخين لذكر حال النبي في الأيام الأخيرة من حياته، ومنهم ابن أبي الحديد قال: (عرضت له الشكاة التي عرضت في أواخر صفر من سنة إحدى عشرة للهجرة، فجهز جيش أسامة بن زيد، فأمرهم بالمسير إلى البلقاء حيث أصيب زيد وجعفر عليهما السلام من الروم، وخرج في تلك الليلة إلى البقيع وقال: إني قد أمرت بالاستغفار عليهم. فقال عليه السلام: السلام عليكم يا أهل القبور، ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع أولَها آخرُها. ثم استغفر لأهل البقيع طويلاً، ثم قال لأصحابه: إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة، وقد عارضني به العام مرتين، فلا أراه إلا لحضور أجلى. ثم انصرف إلى بيته، فخطب الناس في غده، فقال: معاشر الناس، قد حان منى خفوق من بين أظهركم، فمن كان له عندي عدة، فليأتني أعطه إياها، ومن كان له علي دين، فليأتني أقضه. أيها الناس إنه ليس بين الله وبين أحد نسب ولا أمر يؤتيه به خيرا أو يصرف عنه شراً إلا العمل، ألا لا يدّعينّ مدّع ولا يتمنّين متمنّ. والذي بعثني بالحق لا ينجي إلا عملٌ مع رحمة، ولو عصيتُ لهويتُ. اللهم قد بلغت. ثم نزل فصلى بالناس صلاة خفيفة، ثم دخل بيت أم سلمة، ثم انتقل إلى بيت عائشة يعلله النساء والرجال، أما النساء فأزواجه وبنته عليهما السلام، وأما الرجال فعلي عليه السلام والعباس والحسن والحسين عليهما السلام، وكانا غلامين يومئذ، وكان الفضل بن العباس يدخل أحيانا إليهم، ثم حدث الاختلاف بين المسلمين أيام مرضه).
هم الإسلام:
وعندما نقف في ذكرى وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّنا نتذكّر الهمّ الكبير الّذي كان يشغل باله وهو في مرض الموت، فكان يوصي من يأتي إليه، ومن ذلك وصيته لبعض أقاربه الذين عادوه: (يا بني عبدِ مناف، اعملوا لما عند الله فإنّي لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا عبّاس بن عبد المطّلب، يا عمّ رسول الله، اعمل لما عند الله فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً. يا صفيّة بنت عبد المطّلب، يا عمّة رسول الله، اعملي لما عند الله فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً. يا فاطمة بنت محمّد، يا بنت رسول الله، اعملي لما عند الله فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً). وكأنه يقول: لقد حملتُ همّ الإسلام، وفتحت لكم به طريق النّور في الحياة، وهو مسؤوليّتكم؛ أن تحفظوه لتحفظوا من خلاله أنفسكم، وأن تعزّوه لتكونوا من خلاله الأمّة العزيزة، وأن تستقيموا عليه ليكتب الله لكم السعادة، وأن تنطلقوا به في حياتكم الخاصّة والعامّة لترشدوا؛ لأنّ الإسلام هو أساس عزّتكم وقوّتكم ونجاتكم في الدّنيا والآخرة.
وصف ارتحال النبي:
وهكذا تمر الأيام الأخيرة من حياته بكل ثقلها حتى لبّى النبي نداء ربه، وفي ذلك يتحدث الإمام علي قائلاً: (ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وإن رأسه لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفى، فأمررتها على وجهي. ولقد ولّيت غسله صلى الله عليه وآله والملائكة أعواني، فضجت الدار والأفنية: ملأ يهبط، وملأ يعرج، وما فارقت سمعي هينمة منهم ، يصلون عليه، حتى واريناه في ضريحه، فمن ذا أحق به مني حياً وميتاً؟!).
قال ابن أبي الحديد معلقاً: (فأما الغسل فإن علياً عليه السلام تولاه بيده، وكان الفضل بن العباس يصب عليه الماء. وروى المحدثون عن علي عليه السلام، أنه قال: ما قلّبت منه عضوا إلا وانقلب، لا أجد له ثقلا، كأن معي من يساعدني عليه، وما ذلك إلا الملائكة. وأما حديث الهينمة وسماع الصوت، فقد رواه خلق كثير من المحدثين، عن علي عليه السلام).
المصيبة العظمى:
كانت هذه المصيبة هي أعظم المصائب التي نزلت على المسلمين، وعلى علي والزهراء بوجه الخصوص، ولم تمض إلا مدة قصيرة حتى التحقت السيدة الزهراء بأبيها كما أخبرها بذلك، فعاد علي ليوسّد جسدها الطاهر في مثواه الأخير سراً وليصف حاله في كلمات ملؤها الألم: (السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك والسريعة اللحاق بك. قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورقّ عنها تجلّدي. إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك موضع تعز. فلقد وسدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك. إنا لله وإنا إليه راجعون. فلقد استُرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة. أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم. وستنبؤك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها، فأحفِها السؤال واستخبرها الحال. هذا ولم يطل العهد. ولم يخلُ منك الذكر. والسلام عليكما سلام مودع لا قال ولا سئم. فإن أنصرف فلا عن ملالة. وإن أقِم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين).