هواجس العقاب الإلهي ـ مقال للشيخ علي حسن غلوم

عشرات المنتديات على شبكة الإنترنت طرحت السؤال التالي: كيف نميّز بين الابتلاءات التي تكون من باب العقاب وبين تلك التي ليست عقاباً من الله سبحانه؟ والإجابة على هذا التساؤل بحاجة إلى مقدمة.



مفهوم الابتلاء:



الآية التالية تطرح المفهوم القرآني للابتلاء، قال الله عز اسمه: ?ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ? (آل عمران: 154)، فليس الابتلاء هو في جميع مظاهره نقمة وعذاباً، بل قد يكون رحمة لأن من خلاله:

-1 يبني الإنسان شخصيته الصلبة من خلال المعاناة

-2 يكشف للإنسان طبيعة المشاعر والأفكار التي تعيش في داخله، وهل هي زائفة أم مخلصة؟ وما الذي تعمَّق منها وما هو السطحي بينها؟ وهل يمتلك الإنسان صبراً بمقدار ما يصور لنفسه أم أنه جزوع كسائر الناس؟ وهكذا...



إذا امتلكنا قدرة التمييز:



وبالعودة إلى السؤال، فلنفرض أن بإمكان الإنسان أن يميّز بين العقاب وسواه، فلماذا نريد أن نعرف ذلك؟ هل إذا عرفنا أنه عقاب فسوف نستنفر كل طاقاتنا لإصلاح ما أفسدنا، أم سنعيش الهواجس ويعترينا القلق الذي نتيه معه في دهاليز أفكارنا وحساباتنا التي لا تتناسب مع حسابات الله ورحمته، ومن ثم نعيش اليأس الذي قد يدمّر روحيتنا أو يفتح لنا أبواب الاستغراق في الانحراف؟

وماذا لو عرفنا أنه ليس من صنف العقاب، فهل سنسترخي ونكمل حياتنا في غفلة عن أمرنا ونعود إلى سيرتنا الأولى، أم سيزرع ذلك فينا الأمل وسيعطينا القوة للمزيد من طاعة الله ومسيرة العطاء والخير؟

الحقيقة أن الإنسان ليس مطالباً بالتفريق والفرز ليعيش بعد ذلك هاجساً قد لا يكون له أصل، بل مجرد أوهام وتخيلات ?وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً? (النجم: 28) بل هو مطالب على كل حال بالعمل بما يُرضي الله والاستقامة واحتساب الأجر والرضا بالقضاء والصبر على البلاء على كل حال، سواء عرِف أنه من صنف العقاب أم من غير ذلك. فالمهم أن يكون الإنسان في هذه المواقف كما قال الإمام علي عليه السلام لابن عمه قثم بن العباس: (ولا تكن عند النعمة بَطِراً ولا عند البأساء فشِلاً).



هل فكّرت في الفرصة المواتية؟



بل إن نفس بقاء الإنسان على قيد الحياة بعد نزول البلاء معناه أن الله يعطيه المزيد من الوقت ليُصلح من أمره، فلماذا الاستغراق في تعذيب النفس بالقلق واجترار ما مضى دون إصلاح شيء؟ فشاهد الحال أن الذين يعيشون هاجس العقاب الإلهي عادة ما يعيشون القلق السلبي الذي لا يحرّك الإنسان نحو الإصلاح بل يبقيه قيد الماضي البائس.

إن ما يُخاف منه هو مثل الذي أصاب فرعون وأمثاله ممن لم يُمهَلوا ?حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ? (يونس: 91). ولربما إلى هذا أشار الإمام علي عليه السلام بقوله: (وكلُّ بلاء دون النار عافية).



تحويل البلاء إلى عطاء:



وما أروع أن يحوّل المُبتلَى ما عاناه إلى مشروع يخدم من خلاله الآخرين الذين ابتلوا بمثل ما ابتُلي به، تقول معالجة نفسية أنها حضرت منذ سنوات مؤتمراً دوليّاً حيث يجلس الناس ليتبادلوا الخبرات والتجارب، وفي جلسة تحدث زوجان، وهما من روسيا، عن تجربتهما في ولادة طفلة أصيبت بخلل في خلايا الدماغ بسبب خطأ طبي، وقد قاما بالبحث في المراجع العلمية وعلى الإنترنت لمعرفة حالة الطفل وتشخيصها بدقة، والبحث والاتصال بأهم المراكز التي تعالج مثل هذه الحالات، وقاما بالاتصال بأحد هذه المراكز، وتلقَّيا منه برامج تدريبية وعلاجية تفيدهما في التعامل مع حالة طفلتهما وتطويره. ثم قاما بتطبيق هذه البرامج، مع الاتصال بالأسر التي لديها أطفال يعانون من نفس المشكلة عن طريق الإنترنت، وتبادل الخبرات معهم. ثم كوّن الزوجان ما يشبه الجمعية لتطوير وتنمية وزيادة مهارات الممرضات العاملات في حقل رعاية ما بعد الولادة؛ حتى يتم التقليل من احتمالية حدوث هذا الخطأ ثانية مع أطفال آخرين، وفي هذا السبيل تحولت الأم من التدريس (مهنتها الأصلية) إلى التمريض، وساعدها هذا في التفرغ أكثر لفهم ورعاية حالة ابنتها، وإدارة هذه الجمعية الجديدة. وفي نهاية كلمتهما قالا: نودُّ أن نقدم لكم ثمرة من ثمار هذا الجهد المضني الذي استمر لسنوات، ودخلت طفلتهما تتهادى مثل البطة الصغيرة بعد أن شفيت بشكل شبه تام من الحالة التي نتجت عن قصور ولادتها.

الشيخ علي حسن

تاريخ النشر 31/01/2009 جريدة الوطن الكويتية ـ صفحة منتقى الجمان