ذرُوهُ في سُنبله - الشيخ علي حسن

{قال تزْرعُون سبْع سِنِين دأبًا فما حصدتُّمْ فذرُوهُ فِي سُنبُلِهِ الاّ قلِيلاً مِّمّا تأْكُلُون ثُمّ يأْتِي مِن بعْدِ ذلِك سبْعٌ شِدادٌ يأْكُلْن ما قدّمْتُمْ لهُنّ الاّ قلِيلاً مِّمّا تُحْصِنُون ثُمّ يأْتِي مِن بعْدِ ذلِك عامٌ فِيهِ يُغاثُ النّاسُ وفِيهِ يعْصِرُون} (47 – 49).
تتحدث الآيات عن تدابير اقتصادية قدمها النبي يوسف عليه السلام فيما يتعلق بتوفير الأمن الغذائي لمجتمع مصر المهدد بسنين من الجدب والجوع.. وكان تدبيره أن يزرعوا سبع سنين متواصلة، ثم يتركوا ما تم حصاده في سنبله لئلا يفسد أو يتسوّس، وليستهلكوا القليل منه، وليمتنعوا عن التصدير والإسراف، ثم ستأتي سنون كالسباع الضارية تكرّ على الناس لافتراسهم، فيقدّمون اليها ما ادّخروه، فتأكله وتنصرف عنهم. ثم يكشف الله الكربة ويرفع الجدب والمجاعة وتنزل البركة.
في بعض الأحاديث دلالة على ان مصر من خلال هذه التدابير تحولت الى قوة اقتصادية، في الوقت الذي تأثرت فيه الحياة الاقتصادية للمجتمعات الأخرى القريبة منها.


العالم يعاني اقتصادياً

بعد التدهور الاقتصادي الذي شهدته الولايات المتحدة قبل قرابة 3 سنوات، وسحبت معها أغلب دول العالم في دوامتها الاقتصادية، خصوصاً بلحاظ عولمة الاقتصاد، وارتباط العملات بالدولار وغير ذلك من العوامل، مازال العالم يعاني التبعات، وخصوصاً فيما يرتبط بقوت الناس وحاجاتهم الأساسية.
وما تشهده بعض الدول من اضطرابات دليل على ذلك.. نعم، في الكويت يعيش الكثيرون في مستوى من الرخاء والوفرة، ولا يشعرون بعمق المشكلة، ونحمد الله على النعمة، وأقصى ما يحدث ان ترتفع أسعار بعض المواد الغذائية، و«يتحلطم» البعض وتكتب الصحف ثم تمر الأمور وكأن شيئاً لم يحدث، لأن هناك قوة شرائية.

النموذج التونسي

ولكن انظر الى ما جرى ويجري في تونس.. فما الذي يدفع شاباً حاملا شهادة جامعية الى ان ينتحر حرقاً بسبب معاناته المالية؟ وما الذي يدفع الناس هناك الى الخروج الى الشوارع ومجابهة الرصاص الحي بصدورهم والإصرار على إطاحة رئيسهم السابق إلا عمق الأزمة وشدة المعاناة؟ وهكذا في الجزائر حيث خرج الناس الى الشوارع محتجين عندما ارتفعت أسعار بعض المواد الغذائية الرئيسية، وأقدم بعضهم على تكرار تجربة الانتحار حرقاً.. وفي الأردن.. وموريتانيا هي الأخرى مرشحة لأن تعيش ذات السيناريو ذاته. وفي إيران حسب تعبيرهم تم اجراء جراحة مفصلية للاقتصاد هناك، وذلك بهدف ترشيد الاستهلاك وإلغاء الدعم الحكومي عن المواد التموينية والوقود.

الفاو يحذر

التقرير الدولي لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) الصادر أواسط الشهر الماضي، حذر من أزمة غذاء عالمية طاحنة عام 2011، تفوق أزمة الأسعار التي شهدها العالم عام 2008، اذا لم يواجه بزيادة في انتاج المحاصيل الغذائية الرئيسية خلال عام 2011. وتوقع (الفاو) ارتفاع فواتير استيراد الغذاء لدى دول العجز الغذائي ذات الدخول المنخفضة في 2011 بنسبة %20. وأشار أحد خبراء (الفاو) الى ان الزيادة في أسعار الحبوب سجلت في ديسمبر 2010 رقماً قياسياً منذ بداية التسجيل في 1990.

دول تأخذ تدابيرها

وقد أخذت دول كأندونيسيا وتايلاند والصين والفلبين وبنغلاديش وأثيوبيا إجراءات اقتصادية معينة تحسباً للقادم، كما توجهت بعض دول الخليج خلال السنوات الأخيرة لشراء أو تأجير أراض زراعية ضخمة في أفريقيا بهدف زراعتها، ففي السودان وحده، وقّعت الإمارات صفقات للحصول على 400 ألف هكتار لزراعتها وتصدير محاصيلها للإمارات خاصة. وهكذا فعلت السعودية في أثيوبيا.. ويأتي كل ذلك تحت عنوان توفير الأمن الغذائي لبلادها.

سياسات الإنفاق

ما أريد قوله ان الوضع يحتاج الى شيء من اعادة النظر في سياسات الانفاق على المستوى الفردي، ولو من باب الاحتياط.. وأنا لست بالخبير الاقتصادي.. ولا أعلم تأويل الأحاديث كيوسف عليه السلام، ولكن بعض المؤشرات غير مريحة فعلاً. وأريد التنبيه إلى عدة أمور:
1 - هناك فرق بين الرغبة وبين الحاجة، بين ما أريد وبين ما أحتاج اليه. حاجاتنا قد يكون بامكاننا تلبيتها، لكن رغباتنا لا يمكننا إشباعها، لأن الرغبة تزداد كلما أردنا ان نشبعها أكثر برغبة أكبر. (ولا يملأ جوف ابنِ آدم إلا التراب). كثير مما نشتريه هو تلبية للرغبات، وليس استجابة للحاجات. والرغبات قد تكون محفزة لنا في بعضِ الأحيانِ من أجل التغييراتِ الضرورية التي تساعدنا على تحقيقِ أحلامنا، إلا أنها أحياناً تقودنا الى الدمار.
2 - حسن التقدير في المعيشة من صفات المؤمنين، فعن داود بن سرحان قال: (رأيت أبا عبدالله عليه السلام يكيل تمراً بيده، فقلت: جعلت فداك لو أمرت بعض ولدك أو بعض مواليك فيكفيك، فقال: يا داود انه لا يصلح المرء المسلم الا ثلاثة: التفقه في الدين، والصبر على النائبة، وحسن التقدير في المعيشة). فلا إسراف ولا تقتير.
وعنه عليه السلام قال: (اذا أراد الله عزوجل بأهل بيت خيراً رزقهم الرفق في المعيشة). وعنه: (عليك بإصلاح المال فإن فيه منبهة للكريم واستغناء عن اللئيم). والمنبهة تعني الرفعة في الشأن، ويمكن تصور تحقق ذلك بالوفرة المالية الناتجة من حسن التقدير والإنفاق المعتدل، ثم تتبعها جهود استثمارية، وقال الفيض الكاشاني في توجيه آخر للحديث: (لأن بالإصلاح ينمو المال، وبنمو المال يتيسر الكرم، وبالكرم يعلو الكريم ويشرف).
3 - لا تنس العامل الغيبي في استنزال الرزق، قال سبحانه: {يمْحقُ اللّهُ الرِّبا ويُرْبِي الصّدقاتِ} (البقرة: 276)، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (استنزلوا الرزق بالصدقة). وعن علي عليه السلام: (اذا أملقتم فتاجروا مع الله بالصدقة). وقال سبحانه على لسان نوح عليه السلام: {قُلْتُ اسْتغْفِرُوا ربّكُمْ انّهُ كان غفّاراً يرسل السّماء عليْكُم مِّدْراراً ويُمْدِدْكُمْ بِأمْوالٍ وبنِين ويجْعل لّكُمْ جنّاتٍ ويجْعل لّكُمْ أنْهاراً} (نوح: 10 – 12). وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (اذا استبطأت الرزق فأكْثِر من الاستغفار). وعن الإمام محمد الباقر عليه السلام: (عليك بالدعاء لإخوانك بظهر الغيب فانه يهيل الرزق). وغير ذلك من العناوين الكثيرة.