كالتي نقضت غزلها ـ الشيخ علي حسن

شغلت مسألة (القوة الاجتماعية) اهتمام المفكرين الاجتماعيين لعدة قرون، وقد تناولها فلاسفة كبار من قبيل أفلاطون وأرسطو وشغلت حيزاً كبيراً من اهتمامهما، ويأتي هذه الاهتمام نتيجة الإدراك الواعي لوظيفتها و الآثار المترتبة على استخدامها إيجابياً، حيث وجهت لخير البشرية، وسلبياً حيث يزخر التاريخ بالحوادث الدامية لسوء استخدامها.
إن الاهتمام بدراسة ظاهرة القوة الاجتماعية بجميع أشكالها يمكن أن يلقي الضوء على كثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تعاني منها المجتمعات، سواء على مستوى الأسرة أو التنظيمات أو على المستوى المجتمعي، لأن النتائج المترتبة على سوء استخدامها أو توزيعها أو حراكها يمكن أن يؤثر سلباً في المجتمع بناءً ووظيفةً.
تعريف:
ويمكن تعريف القوة الاجتماعية بأنها القوة التي يمتلكها المجتمع في نطاقه الموحد، في الجوانب العملية المتمثلة بالتماسك والترابط العضوي ما بين أفراده، على أساس الفكر المشترك والشعور المشترك في اتجاه الهدف الواحد المشترك. وهناك وسائل عديدة لتحقيق القوة الاجتماعية، من قبيل المال والعلم والتنمية والسلاح وإيجابية العلاقات بين مكونات المجتمع وغير ذلك.
النسيج الاجتماعي:
كلما قويت الدوافع الاجتماعية عندنا وشحنّا أنفسنا بالشعور الواعي بالرابطة الاجتماعية التي تشدنا بالآخرين ضمن مجتمعنا وأهمية ذلك، وتخففنا من إحساسنا بفرديتنا ـ بحيث نشعر بأننا وجود واحد ونسيج واحد ـ كلما اقتربنا من تحقيق هذه القوة الاجتماعية. والعكس صحيح. ونستكشف هذه الحقيقة من خلال التصوير القرآني الرائع المتمثل في قوله سبحانه: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) النحل:92.
تقدم الآية الصورة الحسية التالية: كومة من الصوف المبعثر غير المتجانس، يتحول عن طريق الغزل إلى خيوط قوية متعددة الألوان، ومن ثم تتم عملية النسج المحكم لهذه الخيوط في نسق متجانس الألوان، متغاير الاتجاهات، ولكنه محكم في تداخلاته، متلاحم في نسجه، ليشكل بعد جهد كبير قطعة فنية جميلة من البساط الذي يستفيد منه الجميع.. إلا أنه سرعان ما تقوم الناسجة بنقض ذلك النسيج وتفكيكه مجدداً إلى خيوط مبعثرة متناثرة.. في تصرف لا عقلائي، يستحق معه الذم والتقبيح!
وسائل غير مشروعة:
تلك هي صورة المجتمع الذي يبدأ بفقدان قوته الاجتماعية حين تطغى على أفراده ومؤسساته حالة الشخصنة وحب الذات والفئوية على حساب المصلحة العامة (أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) فكلٌّ يعمل لمصلحته الخاصة، ومن خلال الوسائل غير المشروعة، وبرفع الشعارات المخادعة، ولاسيما تلك التي تحمل صفة القداسة أو الاعتبار العام في المجتمع (تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ).
الدستور والمواطنة:
إن في رقابنا ـ جميعاً ـ عهود والتزامات دستورية تفرضها المواطنة الصالحة والعيش في المجتمع الذي نريد له الاستمرار في قوته الاجتماعية وتنمية هذا الجانب، وهذا ما تتحمل مسؤوليته الدولة والشعب والقوى السياسية والاقتصادية والمؤسسات الدينية ومؤسسات المجتمع المدني والإعلام وسائر الكيانات. وكل إخلال بهذا إنما هو نقض للغزل بعد إبرامه، وبمعنى آخر هو تدمير للقوة الاجتماعية التي عمل الجميع على تحقيقها خلال عقود طويلة من عمر الكويت.
جميعنا خاسرون:
انتهت مسألة الاستجواب وطرح الثقة، ولا أتصور أن خير الوطن في أن يقوم هذا الطرف بالاحتفال والشماتة، وذلك الطرف بالتوعد والتصعيد، إذ لا يوجد رابح فيما عاشته الكويت من تأزيم خلال الأسابيع الماضية، بل الكل خاسر، لأن الوطن خسر.. خسر من الوقت والجهد والأموال.. وخسر من خلال حالة التشنج التي لن تزول آثارها بسهولة بل قد تزداد وفق ما يلوح في الأفق.. وخسر من سمعته إعلامياً على المستوى الدولي.
الكويت وطن الجميع.. ولا أحد يلغي الآخر.. وفيما جرى دروس وعِـبر للطرفين، وإذا كان الطرفان صادقين في نية الخير بالوطن فعليهما التجاوز الحقيقي للأزمة وقراءة الأمور بهدوء وتعقل وتصحيح الأخطاء، وعدم أخذ الأمور مأخذ الشخصانية، وتغليب الدوافع الاجتماعية على الفردية.. لعل بذلك يعود شئ مما ننزفه كل يوم من قوتنا الاجتماعية.