عقلانية الخطاب الإسلامي 2 من 2 -- الشيخ علي حسن


في الأسبوع الماضي تحدثت عن موقع العقل في الإسلام، وعن معنى العقلانية، وعن ملامح العقلانية في الخطاب الإسلامي، وذكرت ثلاثة معالم: اعتماد الكلمة الطيبة، والبنية اللغوية الملائمة، والتقييم المنصف لما هو جديد. وفيما يلي تتمة الحديث.

الدليل هو الأساس

الخطاب الإسلامي فيما يعتمده من آراء أو يرفضه منها يجب ان يكون معتمداً على القاعدة القرآنية: {…قُلْ هاتُوا بُرْهانكُمْ إن كُنْتُمْ صادِقِين} (البقرة: 111). فهناك فرق بين أن تكوّن آراؤك من خلال العصبية والانتصار لنفسك أو قبيلتك أو انتمائك الديني أو المذهبي، وبين أن تكوّنها من خلال الدليل. ولذا يفترض في الخطاب الإسلامي ان يعتمد الدليل كأساس في منطلقاته لا التعصب، قال الإمام زين العابدين: (إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها ان يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليست العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن أن يعين قومه على الظلم) والإصرار على الباطل ظلم.

الابتعاد عن الجدل العقيم

فالجدل الديني الذي لا يراد منه سوى المزيد من عرض العضلات، والدخول في المزايدات الكلامية التي لا تلامس جوهر الموضوع المطروح، جدل مرفوض ومُدان، ويمكن أن نعقد مقارنة بين هذه الصورة: {ومِنْهُم مّن يسْتمِعُ اليْك وجعلْنا علىٰ قُلُوبِهِمْ أكِنّةً ان يفْقهُوهُ وفِي آذانِهِمْ وقْرًا وان يروْا كُلّ آيةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حتّىٰ اذا جاؤوك يُجادِلُونك يقُولُ الّذِين كفرُوا إن هٰذا إلا أساطِيرُ الأوّلِين، وهُمْ ينْهوْن عنْهُ وينْأوْن عنْهُ وان يُهْلِكُون إلا أنفُسهُمْ وما يشْعُرُون} (الأنعام: 26-25) وبين هذه الصورة: {..وإنّا أوْ إيّاكُمْ لعلىٰ هُدًى أوْ فِي ضلالٍ مُّبِينٍ} (سبأ: 24).
فالآية الثانية تلخص الخطوات السليمة في الخطاب الإسلامي:
1 - أن تُشعر الآخر أنك وإياه رفيقان في رحلة البحث عن الحقيقة، فإذا احتدت وجهة نظره تعالجها بالحكمة، فلا مهزوم ولا منتصر، فليس مهمة من يدعو الى الله تعالى، ان يحقق الغلبة ليشبع غريزة العظمة لديه.
2 - أن تمارس انسانيتك في اعانة خصمك على التحرر من رواسبه المنحرفة، والأخذ بيده الى طريق الحق.
3 - التأكيد على الحيادية الفكرية، حيث يتم إطلاق الفكرة في دائرة الاحتمال، لتتساوى فرضية الخطأ والصواب، ومن ثم الانطلاق في رحلة البحث عن الحقيقة من خلال البراهين.
4 - امتلاك الشجاعة للاعتراف بالخطأ إن ثبت.

الرقي في الطرح

فالخطاب الإسلامي خطاب بعيد عن القول المقذع والسباب والإهانة، قال تعالى: {ولا تسُبُّوا الّذِين يدْعُون مِنْ دُونِ اللّهِ فيسُبُّوا اللّه عدْوًا بِغيْرِ عِلْمٍ كذلِك زيّنّا لِكُلِّ أُمّةٍ عملهُمْ…} (الأنعام: 108). لأن من يخالف ذلك لا يخلق إلا الحواجز النفسية بينه وبين الآخر، ولذا كانت التوصية الإلهية لموسى وهارون عليهما السلام وهما يهمان بالدخول على فرعون: (فقُولا لهُ قوْلاً ليِّنًا لعلّهُ يتذكّرُ أوْ يخْشى} (طه: 44).
وهذا ما التزمه أهل البيت عليهم السلام في خطابهم، إذ يروي المفضل بن عمر أنه كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمع عبدالكريم بن أبي العوجاء يتحدث عن الإسلام بسوء، فلم يملك غضبه، فقال المفضل: (يا عدوّ الله، ألحدت في دين الله، وأنكرت الباري جل قدسه.... الى آخر ما قال له، فقال ابن أبي العوجاء: يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلمناك، فإن ثبتت لك الحجة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا يخاطبنا، ولا بمثل دليلك يجادلنا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش في خطابنا، ولا تعدّى في كلامنا، ويصغي الينا، ويستغرق حجتنا، حتى اذا استفرغنا ما عندنا وظننا أنا قد قطعناه أدحض حجتنا بكلام يسير، وخطاب قصير يلزمنا به الحجة، ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه رداً، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه).

الصدق والمصداقية

فالكذب والحيل الكلامية والوضع والتحريف كلها أساليب لا تتناسب والخطاب الإسلامي. فلنلاحظ التقييم التالي للإمام الصادق عليه السلام لأحد أصحابه: (عن يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبدالله عليه السلام فورد عليه رجل من أهل الشام، فقال: إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض، وقد جئت لمناظرة أصحابك…) وبعد أن تجادل عدة من أصحاب الإمام مع هذا الرجل التفت عليه السلام الى صاحبه قيس الماصر، فقال له: (تتكلم وأقرب ما يكون من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله أبعد ما يكون منه، وتمزج الحق مع الباطل وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل).
هذا منطق مخالف تماماً لمنطق أولئك المحدّثين الذين وضعوا الحديث على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أجل أن يدفعوا الناس لقراءة القرآن أو لعمل صالح آخر.. كما هو منطق مخالف تماماً لمنطق البعض الذين يعتبرون ذكر الأحاديث الدخيلة والموضوعة في السيرة الحسينية أمراً محموداً مادام يؤدي الغرض بتهييج العواطف والتفاعل مع تفاصيل الواقعة.. ولذا كان من الضروري أن يتم عرض النهضة الحسينية بعيداً عن الأساطير المسيئة لها التي ان صدّقها البعض فسيرفضها كثيرون.. وإن انطلت على الناس في زمان فإنها لن تنطلي على أجيال قادمة.. احترموا عقول الناس ليحترمكم الناس.