بهتان عظيم ـ مقال للشيخ علي حسن غلوم

كيف عالج القرآن الكريم قضية الإفك التي هزّت المجتمع النبوي في حادثة لم يعهد لها مثيل من قبل، لاسيما وأنها مسّت شخص الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ وما الدروس والعبر التي قدّمتها آيات سورة النور وهي تعرض العناوين الكبرى للمشكلة وعلى رأسها عنوان (البهتان)؟



مفهوم البهتان:



البهتان في اللغة هو الكذب الذي يبهت ويدهش ويحير سامعه لفظاعته، قال الله عز وجل: { فَبُهِتَ الَّذِي كَفَر َ} (البقرة: من الآية 258) أي دهش وتحير.

وفي القرآن نوعان من البهتان: بهتان قولي كما في آية الإفك{ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } (النور:16)، وبهتان فعلي كما في قوله تعالى: { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظ اً} (النساء:20-21). فالقول الكاذب الفظيع بهتان لأنه يمثّل الباطل، وكذلك الفعل الباطل بهتان، لأنه لا يتوافق مع الحق والحقيقة وهو لفظاعته يدهش ويحير.



أنواع البهتان:



والبهتان قد يكون في القضايا ذات البعد الاجتماعي، كما قد يكون في القضايا ذات البعد الديني والسياسي والثقافي والعلمي والتاريخي.. إلخ، إلا أن التركيز في القرآن انصبّ على الجانب الاجتماعي (عدا موردا واحدا)، لاسيما القضايا التي تمس العلاقة بين الرجل والمرأة، سواء أكانت العلاقة ضمن الإطار الشرعي كما في الآيتين السابقتين، أو المحرم كما في قضية السيدة مريم عليها السلام: }وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } (النساء:156)، ويأتي تعظيم قبح الأمر لمساسه لشخص السيدة الطاهرة البتول مريم، كما عظَّم الله قبحه وفظاعته في قضية الإفك لأنه مسَّ عِرضِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.



تهاون غير مبرَّر:



وقد يعتبر البعض أن الخوض في أعراض الناس بهدف ملء أوقات الفراغ أو للتسلية أو تفاعلاً مع المتحدث لخصوصيةٍ فيه أو تقديراً لمقامه ليس بمشكلة كبيرة، بل أمر هيِّن وبسيط ولا يتعدى أن يكون كلاماً يتبخر ويضيع في الزمن، إلا أن الله سبحانه نفى هذه الصورة الساذجة والسطحية فقال: { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ? (النور:15). وترافق مع ذلك تكرار التعبير التالي الذي يستبطن الكثير من التهديد والوعيد: } وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ { عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } (النور:10)... ?وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ? (النور:14)... { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } (النور:20)



الاستفادة من التجربة:



وقد علّمنا الإسلام أن نستفيد من تجاربنا، وأن نبحث عن الإيجابيات في كل الأمور السلبية التي قد نواجهها، فإن كثيراً من الأشياء السلبية تختزن في وجودها أموراً إيجابية، ولكن المهم أن نعرف كيف نستفيد منها، وأن لا نستغرق في السلبيات حتى تحيط بنا وتخنقنا { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } (النور: من الآية11) لأن المجتمع الصالح من سعادته أن يتميز فيه أهل الزيغ والفساد ليكونوا على بصيرة من أمرهم وينهضوا لإصلاح ما فسد من أمرهم، قال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } (البقرة:216).



الموقف السليم:



ثم أرشدت الآيات إلى ضرورة اتخاذ الموقف المتناسب مع حجم القضية وذلك ضمن ثلاثة أبعاد:

-1 الموقف الأخلاقي الإنساني { لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هذا إِفْكٌ مُّبِينٌ } فالمطلوب أن يتعامل الفرد المسلم مع هذا الأمر وكأن البهتان صادر في حقه، فالمسلمون كيان واحد، وما يمس أحدهم يمس الآخرين، فهل يظن أحدنا في نفسه الشر وينسب إلى نفسه ذلك؟

-2 الموقف القانوني { لَّوْلاَ جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شهداء فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بالشهداء فَأُوْلَـئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الكاذبون } (النور:13)، وما لم يتوفر فيه هذا الشرط فلا قيمة فيه، وإن كان حقيقة، وعلى الشهود أن يكتموا الأمر ولا يتحدثوا فيه، وإلا اعتُبر جريمة قذف يعاقِب عليها القانون.

3ـ الموقف العملي { وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } (النور:16).

إن الدنيا لا تغني عن الآخرة شيئاً، فماذا نربح حين ننسب إلى الآخرين ما هم منه براء لمجرد أن نشغل أوقاتنا، أو لأننا لا نحبهم فنسوِّغ لأنفسنا حينئذ أن نبهتهم، أو لأننا نريد أن ننفِّس عن أحقادنا بإطلاق كلمة هنا واتهام هناك بحثاً عن راحة نفسية، لأن هذه الراحة كاذبة، فالبهتان يهدم الديار ويعود على الكاذب نفسه، ففي الحديث (من رمى الناس بما فيهم رموه بما ليس فيه)، ولنتذكر أن الله خصيمنا كما أن الناس سيكونون خصماءنا { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } (الحج: 1).

تاريخ النشر 14/02/2009
جريدة الوطن الكويتية ـ منتقى الجمان