عقلانية الخطاب الإسلامي 1 من 2

عن هشام بن الحكم: (قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام: يا هشام إن الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: [فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ]. يا هشام إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان، ودلهم على ربوبيته بالأدلة، فقال: [وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّـهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ]).
العقلانية قاعدة أصيلة:
انطلق الإسلام في حياة الناس من قاعدة أصيلة وهي: اعتبار العقل قوة صالحة للحكم على الأشياء، وميزاناً يزن به صحة القضايا وفسادها، وهناك نصوص قرآنية وحديثية كثيرة في هذا الإطار:
ـ اعتبار العقل دليل على الدين: عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: (من كان عاقلاً كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنة).
ـ اعتبار العقل من حجج الله على عباده: عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: (حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل).
ـ اعتبار معيار الإثابة والعقوبة هما العقل: عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: (لما خلق الله العقل قال له أدبر فأدبر، ثم قال له أقبل فأقبل، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحسن منك، إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أثيب وإياك أعاقب) تأكيداً على احترام العقل ودوره في العقيدة والشريعة والمعاملات.
مخالفة العقلانية:
يمكن تعريف اتباع العقل ـ العقلانية ـ بأنه: (الطريقة الموضوعية للتفكير، التي تعمل على أساس دراسة أية قضية أو فكرة من خلال عناصرها الذاتية، وخصائصها الموضوعية، فيما يحيط بها من أجواء وظروف). وبالتالي يمكن تصنيف الحالات التالية على أنها مخالفة للعقلانية:
1. العاطفية، بأن يتبع الإنسان عاطفته ـ حباً أوبغضاً ـ ويأخذ قراراته على أساسها.
2. عندما يتبع هواه وغرائزه دون تفكير، أو حتى وهو يعلم خطأ هذه الخطوة. عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: (آفة العقل الهوى).
3. بناء المواقف على قاعدة (حشر مع الناس عيد). عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (لا تكونن إمعة، تقول أنا مع الناس، وأنا كواحد من الناس).
4. بناء المواقف من خلال التقليد الأعمى، تقديساً لتراث الآباء دون فهم ولا دليل ولا قناعة. قال تعالى: (وَإِذَا
قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) البقرة:170.
5. المواقف الانفعالية الخاطئة المترتبة على الغضب أو الحزن الشديد أو الصدمة.. إلخ.
الخطاب الإسلامي:
وبما أن الدين الإسلامي هو دين العقل، فمن المنطقي أن يكون الخطاب الإسلامي خطاباً عقلانياً، لأنه يمثل إطلالة الإسلام من خلال مفكريه أو دعاته على واقع الإنسان، من أجل أن يخاطب عقل الإنسان وقلبه وحياته بالمفاهيم الإسلامية المنسجمة مع الفطرة، قال تعالى (فأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الروم:30، والعقل جزء من هذه الفطرة.. فما هي الملامح المفترضة للخطاب الإسلامي العقلاني؟
الكلمة الطيبة:
من تلك الملامح الاستعانة بالكلمة الطيبة والقول الحسن: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) إبراهيم24-25. فقد تكون الفكرة طيبة ولكن الأسلوب غير طيب، فلا تؤتي الكلمة ثمرتها، وهذا ما نلحظه ـ مثلاً ـ في بعض البرامج الحوارية الدينية أو المذهبية أو السياسية التي تبث عبر القننوات الفضائية، حيث تكون السمة العامة للقاء هو الصراخ والتهجم والاستهزاء والسعي للتغلب على الآخر وإفحامه.. إلخ.
اعتماد بُنية لغوية ملائمة:
فقد يحاول البعض إثبات علو كعبه في المجال اللغوي أو الفلسفي أو الأصولي أو التخصصي فيستخدم من الكلمات والمصطلحات ما لا يحقق الهدف من الخطاب، وقد روي عن النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم). كما قد يبتعد البعض عن الأسلوب المعاصر ويتحدث بلغة القرون الوسطى، فيحدث بذلك فجوة بينه وبين المستمعين.. بينما الإنسان الذي لا يفهم عصره لا يستطيع أن يتفاعل مع لغة الناس الذين يخاطبهم، فاللغة ـ كما قيل ـ ليست مجرد حالة صوتية بل هي حالة ذهنية.
التقييم العقلاني للجديد:
فلا نبادر إلى رجم كل فكر جديد، ولا نرفض الجديد لمجرد أنه يختلف عن القديم، كما لا نقبل الجديد إلا بعد أن نستنفر العقل، ونبحث فيه ونحاكمه على ضوء المقاييس العلمية، وبذلك يمكن أن نغني الإسلام في الفكر والثقافة والفقه وغيرها من الأبواب التي تصنع الحضارات، فإذا تبين بعد البحث صحة ما هو من الفكر الماضي نكون قد أثرينا البحث فيه وزدنا أسسه قوة.. وإن تبين صحة ما هو جديد نكون قد وصلنا إلى الحقيقة وهي غاية المؤمن العاقل. إن الجمود والأفق الضيق لا يصنعان حضارة، وأصحاب الفكر والبحث العلمي لن يتوقفوا عن حركتهم في هذا الطريق، ولن تزيدهم المواجهة إلا إصراراً وتقدماً. ... يتبع