الأبعاد المعنوية في الجهاد عند أمير المؤمنين (ع)... القسم الأول- ليلة 19 رمضان 1445

- للقتال بعض العادات والمبادئ العامة التي يطبّقها الجيشان المتقابلان في الحروب؛ مثل استخدام التقنيات العسكرية، وحفظ الأسرار، وأسس اتخاذ القرارات وتنفيذها... إلخ.
- لكن الأمر -في الإسلام- لا يقف عند هذا الحد، فبالإضافة إلى ما سبق، لا بد للمقاتلين المسلمين من أن يلتزموا بمجموعة من الأحكام والأخلاقيات والآداب الخاصة، وهو ما انعكس في كلمات وسيرة أمير المؤمنين علي (ع) ضمن سيرته العسكرية.
- وسأستعرض معكم -على مدى ثلاث ليال- مجموعة مما جاء عنه في هذا المجال:
1. الإخلاص في النية: عند علي (ع)، قيمة الجهاد والقتال تكمن في مدى خلوص العمل لله سبحانه، ولذا نجده (ع) يقيّد كلمة الجهاد بعبارة (في سبيل الله)، وهو ما يُفترض به أن يميز المقاتل المسلم عن سواه.
- ولذا نجده يوصي -كما في الكتاب 47 من نهج البلاغة- بقوله: (اللَّهَ اللَّهَ فِي الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
2. تجاهل التحيزات العرقية والقومية: الأمر الآخر الذي نلحظه في كلمات ووصايا علي (ع) الخاصة بالقتال، تأكيده على ضرورة تجاهل جميع التحيزات الجاهلية، كالتحيز للعرق والنسب والقومية وغير ذلك، ليكون قتاله خالصاً لجبهة الحق.
- فإذا اجتمع الأهل والأقرباء مع المقاتل المسلم في جبهة الحق، كانت مسئوليته القتال إلى جانبهم، وإذا اجتمعوا تحت راية الباطل، كانت مسئوليته أن يقتالهم... ولا شك أن اتخاذ القرار بهذا الشأن، والعمل له، ليس بالأمر البسيط، لاسيما في البيئات الاجتماعية القائمة على الولاء القبلي والعشائري.
- ولكن علياً (ع) ينبّه إلى أن المقاتل المسلم التقيّ، يجب أن يضع دينه قبل كل عناوين التحيّز، وإذا لزم الأمر، أن يُشهر سيفه ضد أقرب الناس إليه، فليفعل؛ وقد وَصف عليٌّ (ع) في الخطبة 55 من نهج البلاغة كيف كان المسلمون على عهد رسول الله (ص) يقاتلون أقرب الناس إليهم متى ما جمعتهم الحرب في جبهتين متضادتين: (ولَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (ص) نَقْتُلَ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَأَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً وَمُضِيّاً عَلَى اللُّقَمِ) اللُّقَمُ : الطريقُ الواضح.
- يقول علي (ع) إنَّ قَتلَنا لأقرب الناس إلينا رَحِماً -نصرةً لله ولرسوله- ليس فقط لم يسبب لنا الحزن والألم النفسي، بل كان يؤدي عندنا إلى زيادة الإيمان والخضوع والثبات في الخُطى، والمضيّ في الطريق.
- وهذا ما طبّقه محمد بن أبي بكر -على سبيل المثال- اقتداءً بأمير المؤمنين (ع) في هذه الوصية، حيث نجده يقف مع علي في حرب الجمل، وفي الجهة المقابلة أقرب الناس إليه رحماً، أختُه، وأبناءُ عمومته، وغيرُهم من أقربائه، ولكنه لم يبالِ.
- وفي المقابل، فإن الإمام (ع) ينهى عن توظيف المشاعر الشخصية في الاندفاع للقتال... ففي وصيته لأحد القادة العسكريين واسمه (معقل بن قيس الرياحي) [حين أنفذه إلى الشام في ثلاثة آلاف، مقدمةً له] كما في الكتاب رقم 12 من نهج البلاغة: (وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ شَنَآنُهُمْ عَلَى قِتَالِهِمْ قَبْلَ دُعَائِهِمْ وَالْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ).
- أي فليكن التزامكم بتشريعات القتال وأخلاقياته قائماً حتى في حالة وجود مشاعر سلبية شخصية تجاه العدو... عليكم أن تدعوهم إلى الحلّ السلمي، أو الاستسلام وإلقاء السلاح، أو غير ذلك (بحسب الموقف)، وتحذّرونهم وتنذرونهم من مغبّة الإصرار على القتال، وتُلقون عليهم الحجج، فإن أبوا وأصرّوا على تمرّدهم وقاتلوكم كان لكم أن تقاتلوهم.
- وهكذا نجده يوصي قواتِه في صفين بمثل ذلك قبل بدء القتال -كما جاء في الكتاب 14 من النهج- (لَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ، فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى حُجَّةٍ، وَتَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ بِإِذْنِ اللَّهِ فَلَا تَقْتُلُوا مُدْبِراً، وَلَا تُصِيبُوا مُعْوِراً، وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا تَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأَذًى وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ، فَإِنَّهُنَّ ضَعِيفَاتُ الْقُوَى وَالْأَنْفُسِ وَالْعُقُولِ. إِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وَإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْفَهْرِ أَوِ الْهِرَاوَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ).
3. مَنع البدء بالقتال: على الرغم من الشخصية العسكرية والبطولية المميزة للإمام علي (ع) بما لا يضاهيه أحدٌ في زمانه، إلا أنه كان مؤمناً بأن القتال ليس غاية يَسعى إليها، ولا يمثّل أولوية بالنسبة إليه، على خلاف القادة العسكريين من الطراز الأول الذين يبحثون عادةً عن أمجادٍ عسكرية يحقّقونها في الميدان، ولذا يتشوّقون إلى القتال والحروب.
- قال ابن أبي الحديد: (قد روي عنه أنه قال: ما نُصرت على الأقران الذين قتلتهم إلا لأني ما ابتدأت بالمبارزة)، وكأنه يقول أن هذا الأمر يمدني غيبياً ونفسياً.
- وهكذا يوصي ابنه الحسن (ع): (لا تدعُوَنَّ إلى مبارزة، وإنْ دُعيتَ إليها فأجِب؛ فإن الداعيَ إليها باغ، والباغي مصروع).
- الأولوية عند علي (ع) هي السلام وحلّ الأمور سلمياً وبالتفاهم، وأما الحرب فهو خيار من قبيل آخر الدواء الكيّ. وحتى في هذه الحالة، عندما يختار العدو القتال، فإن علياً (ع) لا يبادر، ولا يقاتل ما لم يُبادر الطرف الآخر بذلك... في تاريخ الطبري: (قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي، عن أبيه، أن عليًا كان يأمرنا في كل موطن لقينا فيه معه عدوًا فيقول: لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم).
- قد يقال: ولكننا نجد في الخطبة برقم 27 من نهج البلاغة قوله (ع): (اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ)، ألا يدل هذا على خلاف ما ذكرنا من منعه البدء بالقتال؟
- الجواب: هناك فرق بين الأمرين، ولابد من فهم طبيعة الظروف التي صدر فيها النص. فحيث كان الصراع قائماً فعلياً بعد صفين، وذلك من خلال إرسال معاوية للقوات العسكرية بشكل مستمر للمشاغبة والعدوان على المناطق السكنية في العراق والحجاز والتي كانت تحت سلطة الإمام (ع)، وما يجري خلال ذلك من قتل وتدمير ونهب... لذا كان من الضروري أن يتم إيقاف هذه التحركات العدائية المستمرة من خلال إجراءات عسكرية استباقية في معقل العدو لكي لا يتجرأ على الزحف نحو تلك المناطق السكانية الآمنة.
- مثال ذلك -كما في كتاب الغارات للثقفي- ما روي عن سفيان بن عوف الغامدي قال: (دعاني معاوية فقال: إني باعثك في جيش كثيف ذي أداة وجلادة، فالزم لي جانب الفرات حتى تمر بهيت، فتقطعها، فإن وجدت بها جنداً فأغر عليهم، وإلا فامض حتى تغير على الأنبار، فإن لم تجد بها جنداً، فامض حتى تغير على المدائن، ثم أقبِل إلي... واقتل كل من لقيت ممن ليس هو على رأيك، واحرب الأموال، فإنه شبيه بالقتل، وهو أوجع للقلوب. قال: فخرجت من عنده، فعسكرت، وقام معاوية في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فانتدِبوا مع سفيان بن عوف، فإنه وجهٌ عظيم، فيه أجر عظيم، سريعةٌ فيه أوبتُكم إن شاء الله، ثم نزل. قال: فوالله الذي لا إله إلا هو ما مرت بي ثلاثة حتى خرجت في ستة آلاف، ثم لزمت شاطئ الفرات فأغذذتُ السير حتى أمر بهيت، فبلغهم أني قد غشيتُهم، فقطَعوا الفرات) ثم يتحدث عن هروب أهل هيت حتى صارت المدينة خالية منهم، ومن بعدها [صندوداء] ثم الأنبار حيث وقع قتال، انتصر فيه الغامدي وقُتل أمير المدينة وآخرون (فحملنا ما كان في الأنبار من أموال أهلها، ثم انصرفت. فوالله ما غزوت غزوة أسلم ولا أقر للعيون ولا أسرّ للنفوس منها).
- إلى هذه الغارة يشير الإمام علي (ع) في الخطبة 27 من نهج البلاغة حيث يقول: (أَلَا وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلًا وَنَهَاراً، وَسِرّاً وَإِعْلَاناً، وَقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا، فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ، حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ، وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَانُ، وَهَذَا أَخُو غَامِدٍ وَقَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ، وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلُبَهَا وَقَلَائِدَهَا وَرُعُثَهَا، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْجَاعِ وَالِاسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلَا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً).
- فالمسألة ليست مسألة جيشين متواجهين، بحيث يقول الإمام ابدأوهم بالقتال قبل أن يبدأوكم.. بل مسألة تكرار عدوان من قبل الخصم، والمطلوب الآن أن يتم إيقاف ذلك من خلال المبادرة العسكرية في أرض الخصم ومعقله.
- وستكون لنا وقفة مع المزيد من الأحكام والأخلاقيات والآداب الخاصة بالقتال في سبيل الله تعالى، والتي تجلت في كلمات وسيرة أمير المؤمنين علي (ع).
- وقبل أن نختم نتوقف قليلاً من كلمات الشاعر وهو يعبر عن مدى ألمه وحزنه لاستشهاد أمير المؤمنين (ع)، يقول:
عودي لـنا ليـلاءُ لا يبـدو لهــــا نــورٌ، ولا فيهـا شهابٌ يَسطَعُ
قـد غـاب نـورُ الله فيكِ فلا زها مِن بعـده أفـقٌ وأشـرقَ مطلَـعُ
أدَرى ابنُ ملجمٍ حين سلَّ حسامَه للفتـكِ بالإيمان، ماذا يصنـَعُ؟
أردى به التـوحيـدَ في ملكـوتِــه فالعـرشُ مما قد جَنى متفجـِّعُ
أردى به الإســلامَ في توجيـــهِه فشـعاعُـه بدمــائِه متـبرقِـــعُ
يا فتــكةَ جبــارةٍ لم تنـدمــــلْ أبــداً، وغَلّــةَ واجـدٍ لا تنقَـعُ
الديــنُ من جــرائها متزلــزلٌ والحـقُّ من نَكبائهــا متزعـزِعُ
صُمّت لها أذُنُ الحوادثِ دهشةً وتلجلجَ التاريخُ وهو المِصقَعُ
جُرحٌ أصاب الطُّهرَ في محرابـِه مِن وقْعِـهِ قلبُ الهدى يتوجَّـعُ
لاقى الإلــهَ وذِكــرُه بلسانِــه ومضَـى إليه ساجداً يتضــرعُ
بين الصلاةِ، وتلك أرفعُ شارةٍ يَقضي شهيــداً بالدمـاءِ يُلفَّــعُ
سرُّ التقرّبِ في الصلاةِ، ومَن بهِ تَسـمو العبـادةُ للإلــهِ وتُرفـَعُ
قد كـان ما بين الأنـامِ وديعــةً رَجعَت، وأيُّ وديعةٍ لا تَرجِـعُ
ونعاه للمــلأ المقدسِ صارخـاً جبريلُ: قد ماتَ الإمامُ الأورعُ
وتهدمت في الأرضِ أركانُ الهدى فكيـانُه من بعــدِه مُتضَعْضِــعُ