خطبة الجمعة 12 رمضان 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: رداء الإمام الحسن


- قال تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت:34-35]. أي ذو نصيب عظيم من فضيلة الأخلاق.
- تجرُّع الغيظ ليس أمراً بسيطاً.. أن يتجاوز الإنسان كرامتَه، وعزةَ نفسه، وما تُحدّثه به نفسُه من الانتقام، وردّ الاعتبار، وأمثال ذلك.
- يحتاج الإنسان إلى صبر وقوة، ولذا قال النبي (ص) كما روي عنه: (ليس الشديدُ بِالصُّرَعَةِ) أي المصارع الذي يغلب الناس بقوته (إنما الشديدُ الذي يملكُ نفسَه عند الغضب). فكيف إذا كان الأمر يتجاوز تجرع الغيظ وكظمه إلى الإحسان؟
- وهذه واحدة من صور المعاشرة الإيجابية مع الناس بما تترك أثراً لا يُمحى من ذاكرتهم.
- جاء في الحكمة العاشرة من قسم الحكم في نهج البلاغة: (خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً، إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ)، فالإنسان السويّ يحب الخير، وعمَل الخير، ويقدّر فاعل الخير والبر والإحسان.
- ولذا فإنه على الرغم من كل الدعاية الإعلامية السلبية التي قام بها الأمويون لتشويه صورة الإمام الحسن (ع)، وقبل ذلك بحق علي (ع) وآل علي، إلا أنّ حبّ الحسن (ع) بقي حاضراً في النفوس، ومن أسباب ذلك: ما كان يقوم به الإمام مِن فعل الخير.
- الآلة الإعلامية ذات الصبغة الدينية التي كان يوظفها الأمويون في مصالحهم -دون تقوى- لم تكن بسيطة.. أموال، وشخصيات، وأساليب، وامتداد.. ومع هذا كان الإمام المجتبى (ع) من خلال موقف واحد يحطّم تلك الماكنة التي لم تكن تهدأ.
- وليس البُعد الاجتماعي هو البُعد الوحيد الذي يتأثّر بشكل إيجابي من خلال العفو، بل هناك آثار إيجابية على أكثر من صعيد:
1. الأهمية النفسية: وتتمثل في تقدير الذات، والثقة بالنفس، والابتعاد عن التوتر والقلق.. الإنسان الذي لا يستطيع أن يتجاوز عن الإساءات، تتراكم عنده هذه التجاربُ السلبيةُ وآثارُها، فتزداد نفسيتُه سوءً، ويزداد توتره وقلقه، ويعيش نوعاً من الصراع مع نفسه، وقد يواجهه الآخر بالعفو والإحسان فيخجل من نفسه ويلومها، فيقلّ تقديره لذاته وثقته بنفسه.
2. الأهمية الفسيولوجية: الصحة الجسدية للإنسان ذات علاقة مباشرة بالصحة النفسية، استمرار التوتر والقلق والاضطراب عند الإنسان الذي لا يضبط أعصابه في علاقته مع الآخرين سيتأثر سلباً في هذا الجانب... بينما العفو والتسامح ومقابلة الإساءة بالإحسان
يساعد على الاسترخاء والهدوء، بما يؤثر إيجاباً على الصحة الجسدية.
3. الأهمية الدينية: فللعفو ومقابلة الإساءة بالإحسان قيمة عليا عند الله سبحانه، وتترتب عليها آثار دنيوية وأخروية عديدة.
- ولنتوقف عند شاهد من سيرة الإمام المجتبى (ع). في الطبقات الكبرى لابن سعد: (أخبرنا شدّاد الجُعفي عن جدّته أرجوانة. قالت: أقبَلَ الحسنُ بنُ علي وبنو هاشم خلفَه وجليسٌ لبني أمية من أهل الشام فقال: مَن هؤلاء المقبِلون؟ ما أحسَن هيئتَهم!! فاستقبلَ الحسنَ فقال: أنت الحسن بن علي؟ قال: نعم. قال: أتحب أن يُدخلك الله مُدخَل أبيك) يقصد نار الآخرة (فقال: ويحك. ومن أين؟ وقد كانت له من السوابق ما قد سبق. قال الرجل: أدخَلك الله مُدخلَه، فإنه كافر وأنت. فتناوله محمد بن علي من خلف الحسن فلطمَه لَطمةً لَزِم بالأرض. فنشر الحسنُ عليه رداءَه وقال: عَزمةٌ منّي عليكم يا بني هاشم) أي أُقسم عليكم (لتَدخلُنّ المسجدَ ولتُصَلُّنّ. وأخذ بيدِ الرجل فانطلقَ إلى منزله، فكساه حُلّة، وخلّى عنه)... هذه روحية ملائكية لا تجدها إلا عند النادر من الناس: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
- وهذه كانت من بين الوصايا التي أوصاه بها الإمام علي (ع) كما هو المروي في نهج البلاغة، وهي الوصية التي كتبها إليه بمنطقة قريبة من صفين في الشمال السوري، واسمها (حاضرين) وذلك بعد انتهاء واقعة (صفين)، يقول فيها: (وتجرَّع الغيظ) التجرّع بأن تبتلع الشيء عن كراهة، وقد يتمّ بسرعة لئلا تشعر بطعمه، أو تدريجياً، لصعوبة تقبّلك له، يقول تعالى: [وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ، يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ] إبراهيم:16-17 فأن تصبر على الغيظ كأنك تبتلع ذلك الشيء المرّ الكريه وأنت متنفّرٌ منه.. ولكن لاحظ كيف أن الحسن (ع) تجاوز الإساءة بكل تلقائية وسرعة، وخلّص الرجل من المزيد من الاعتداء عليه، ثم أبعده عن الجوّ المشحون ضدَّه، ثم أكرمه! وهذا يرشد إلى أن الإمام المجتبى لم يكن يعاني من مقابلة الإساءة بالإحسان، وهذا ما يصفه الإمام علي (ع) في تتمة وصيته حيث يقول: (فإني لم أرَ جرعةً أحلى منها عاقبةً ولا ألذَّ مغبَّة) والمغبة هي العاقبة أيضاً أي بعد أن تُقدِم على مثل هذا الموقف، ستجد أثره الإيجابي ضمن النتائج اللاحقة... ولكن هذه الحلاوة كان يشعر بها الحسن (ع) في الآن واللحظة وقبل أن تظهر النتائج.
- أحد أولياء الأمور يشتكي بأن ابنه يميل إلى المسيحية.. لماذا؟ يقول لأن عندهم أنه [مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَاعْرِضْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا] كما عن المسيح (ع) في إنجيل لوقا، أما الإسلام فدينٌ عنيف، حروب، وقتل، وسبي.. السؤال لك يا ولي الأمر: هل علّمتَ ابنَك القرآن؟ هل أخبرته عن آية (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)؟ هل أخبرتَه عن آية (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)؟ وأن المسألة ليست مسألة رغبة في القتال، بل دفاع عن النفس... هل أخبرته في المقابل عن الحروب الصليبية وجرائمها، وجرائم محاكم التفتيش في الأندلس؟ هل أخبرتَه عن الأحاديث النبوية الخاصة بالعفو والإحسان إلى المسيء؟ هل أخبرته بهذه الوصية من علي لابنه الحسن؟ هل ذكرت لابنك شيئاً من هذه السيرة المباركة للإمام الحسن ومواقفه تجاه المسيئين إليه، وهي أكثر من موقف؟ نعم، عندما نُهمل التربية الإسلامية، فإننا نسلّم الناشئة للآلة الإعلامية للملحدين تارة، ولغير المسلمين تارة أخرى.. للهندوس، وللبوذيين، وللمسيحيين، ولغيرهم.
(ولِن لمن غالظك) من يتعاملْ معك بغِلظة عاملْه برفق (فإنه يوشك أن يلين لك. وخذ على عدوِّك بالفضل) يمكن أن تستمر بالعداوة، ولربما تغلبه فتنتقم لنفسك، ويمكن أن تتفضّل عليه بالعفو وتتسامح معه، فتظفر بقلبه وبصداقته بعد عداوته (فإنه أحلى الظفرين. وإن أردتَ قطيعةَ أخيك، فاستبْقِ له من نفسك بقيةً تَرجع إليها إن بدا له ذلك يوماً ما) لا تجعل القطيعة نهائية وبلا رجعة، بل فليكن هناك مجال للتصالح وإعادة المياه إلى مجاريها (... ولا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته) امتلك إرادة على الصلح وإعاة العلاقات تكون أقوى من إرادته للقطيعة.
- إن تجرُّعَ الغيظ، وتجاوزَ الإساءة، والعفوَ، ثم مقابلةَ ذلك بالإحسان، ليس أمراً هيّناً، بل يحتاج إلى صبرٍ وقوةٍ وتحكّمٍ في النفس: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، ومن هنا كانت آثارُه أيضاً عظيمة، اجتماعياً: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).. ونفسياً وفسيولوجياً بمساهمته في تحقيق تقدير الذات، والثقة بالنفس، والابتعاد عن التوتر والقلق وآثارهما السلبية على الجسد... ودينياً بما ينتظر هذا النموذج من الناس من ثواب الله العظيم.. وقد كان إمامُنا المجتبى (ع) نموذجاً حياً في مقابلةِ الإساءةِ بالإحسان، وتشهدُ له بذلك المواقفُ التي خلّدَها التاريخ، وعلى أولياء الأمور تقديمُ هذه المفاهيم للناشئة، وترسيخُها في سلوكياتهم، وإطْلاعُهم على ما في سيرة النبي (ص) وآله (ع) من صورٍ رائعة تجسّدُ تلك المفاهيم، وترتقي بروحيَّتِهم إلى مصافّ الملائكة في الطُّهر والصفاء. وفي المقابل، فقد مثّلَ أعداءُ اللهِ -عبر التاريخ- أخسَّ الصور وأحقرَها، وها هم الصهاينة اليوم يبرهنون على ذلك بجرائمهم التي لا تتوقف، وبوحشيّتهم التي لا توصَف... ولكن أيمكن لكل هذه الدماء التي أريقت، ولكل هذه التضحيات التي قُدِّمَت، ولكل هذه البطولات التي سُطِّرَت، أن تذهب سُدىً... حاشا لله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.