خطبة الجمعة 5 رمضان 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الخيانة

- قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: 27].
- قال ابن فارس في مقاييس اللغة: ([خَوُنَ] الْخَاءُ وَالْوَاوُ وَالنُّونُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ التَّنَقُّصُ. يُقَالُ خَانَهُ يَخُونُهُ خَوْنًا. وَذَلِكَ نُقْصَانُ الْوَفَاءِ).
- الوفاء بالعهود والالتزامات، وحفظ الأمانة، في ما له علاقة بشئون الدنيا أو الآخرة، من الأمور التي يُفتَرض بالإنسان المؤمن أن يعمل بها، ولا يُفرِّط بشأنها، ولا يُنقِص منها.
- وعندما يحترم الإنسان عهودَه والتزاماتِه ويفي بها، فإنما يحترم نفسَه في المقام الأول، لأن الالتزامَ بذلك يعني أن هذا الإنسان يعطي لكلمته قيمة ووزناً، بينما الخيانة وعدم الوفاء بذلك يعني أنه يحتقر نفسه، حيث لم يُقِم -هو- لكلمته وزناً، ولم يعطِ لها قيمة.
- هناك التزامات مع الله تعالى، تتمثّل في الإيمان بوحدانيّته، والاعتقاد بربوبيّته، وفي طاعته، وفي عبادته، وفي الالتزام بدينه ومنهاجه... ومخالفة ذلك خيانة لله.
- وهناك التزامات تجاه رسول الله (ص)، في الإيمان بنبوته ورسالته، وفي طاعته والأخذ بأوامره ونواهيه المولوية (تعاليمه الدينية) والولائية... ومخالفة ذلك خيانة لرسول الله (ص).
- وهناك التزامات تجاه الآخرين.
- والآخر قد يكون فرداً، كأن تلتزم بدفع الإيجار للمؤجِّر، ودفع مستحقات الخادمة، وتسديد ما اقترضته من أحدهم، وإعادة ما استعرتَه إلى صاحبه... ومخالفة ذلك خيانة، سواء أكان الآخر منسجماً معك دينياً، أو مذهبياً، أو فكرياً، أو سياسياً، أو لم يكن.
- عن أبي ثمامة قال: (دخلت على أبي جعفر (ع) وقلت له: جعلت فداك إني رجل أريد أن ألازم مكة وعليَّ دينٌ للمرجئة فما تقول؟) كأن السائل قد تصوّر أنه يمكن تجزئة القيمة الأخلاقية.. فإذا كان الموقف مع إنسان يتفق معه في الدين أو المذهب فإنه يلتزم بالصدق ويكون أميناً، وأما إذا كان الآخر مختلفاً، فإن له أن يتخلى عن القيمة الأخلاقية فيكذب ويخون.. وللأسف فإن بعض التعليم الديني القاصر يصب في هذا الاتجاه (قال: قال ارجع وأدِّ دينَك وانظر أن تلقى الله تعالى وليس عليك دَيْن، فإنَّ المؤمنَ لا يخون).
- وقد يكون الآخر قضية مبدئية، كقضية فلسطين اليوم في مواجهة الكيان الغاصب، فإن من مسئولية الإنسان المؤمن أن يلتزم تجاهها بأن يستمر في دعمها والدفاع عنها... ومخالفة ذلك خيانة.
- كما أن الآخر قد يكون كياناً، كالوطن، فعليك أن تراعي مصلحتَه، وتحفظَ فيه النظام، وتلتزم بقوانينِه، ولا تُفشي أسرارَه للعدو الباغي... ومخالفة ذلك خيانة.
- أو قد يكون بلداً ليس بوطن لك، بل قد لا يكون من بلاد المسلمين، ولكنك دخلتَه وفق قوانين وشروط والتزامات معينة، وذلك من خلال منحك تأشيرة الزيارة أو الإقامة، فعليك العمل وفق ذلك... ومخالفة ذلك خيانة للتعهد.
- استفتاء وجه لسماحة المرجع الديني السيد السيستاني: (هل يجب على المكلّف الحاصل على فيزا الالتزام بقوانين البلد غير الإسلامي؟) والجواب: (إذا تعهّد لهم -ولو ضمناً- برعاية قوانين بلدهم، لزمه الوفاء بعهده فيما لا يكون منافياً للشريعة المقدّسة)، فكل ما سبق بشرط أن لا يكون في البين ما يخالف أمرَ الله تعالى ونهيه.
- فلو كنتَ مثلاً قد تعهدتَ لجماعةٍ مفسدة مجرمة بأن لا تُفشي سرَّها الخاص بارتكابها الجرائم فلا قيمة لذلك.
- نعود إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: 27]... الإقرار بالشهادتين يستلزم العمل بمضمون ذلك، من خلال طاعة الله ورسوله، ومن خلال التزام الإسلام نهجاً.
- أي أنه عندما يترك المسلم الصلاة والصيام والحج وما أمر الله تعالى به من العبادات.. أو عندما يترك ما فرضه الله عليه من التزامات ماليّة.. فهو خائن لله، لأنّ الله تعالى أمره بذلك، وقد وعد هو بذلك من خلال إيمانه، ولكنه لم يؤدّه.
- وهكذا عندما يأتي المسلم بما نهى الله عنه، فإنه يخون الله ورسوله في ذلك.
- وهذا ما عبّر عنه الإمام الباقر (ع) حيث قال كما روي عنه في بيان المراد من الآية الشريفة: (فخيانة الله والرسول معصيتهما، وأما خيانة الأمانة فكل إنسان مأمون على ما افترض الله عز وجل عليه) هناك أوامر ونواهي إلهية ونبوية، وعدم الالتزام بها معصية وخيانة، وهناك عبادات وفرائض هي أمانة الله عندنا، وعدم العمل بها خيانة لهذه الأمانة.
- ومن صور الخيانة لله والرسول أن يقف المسلم مع الصهاينة الغاصبين، أو يعطيهم الحق في اغتصاب الأرض، أو يؤيِّدَ أفعالَهم الإجرامية، أو يبرِّرها، أو يستحسنها نكايةً بالفلسطينيين مثلاً وبغضاً لهم... كل ذلك مع وضوح الحق -اليوم- وامتيازِه عن الباطل.
- ومن صور الخيانة لله والرسول أن يدعمَ المسلمُ الصهاينةَ الغاصبين مالياً، أو لوجستياً، أو مخابراتياً، أو معلوماتياً، أو بأية صورة أخرى.
- وكما أن فعلَ الخيانةِ أمرٌ مبغوض في حدِّ ذاته، فإن الدفاع عن الخائن -لقرابة أو صداقة أو أية علاقة أخرى- أمرٌ يبغضه الله ويحاسب عليه: (وَلَا تُجَادِلْ) لا تدافع (عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) [النّساء: 107].
- إننا عندما نستقريء آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة سنجد أن مجالات الخيانة عديدة، ففي عالم التجارة والاقتصاد خيانة، وذلك حين يغش التاجر في البضاعة نوعاً أو كماً، أو حين يطفِّف، أو حين يتلاعب في العملة الوطنية فيلحق الضرر باقتصاد الوطن وبجيب المواطن، وقد روي عن علي (ع) أنه قال: (شرّ الرّجال التجّار الخونة)... وفي العلم خيانة، وقد روي عن النبي (ص) أنه قال: (تناصحوا في العلم، فإن خيانة أحدكم في علمه أشدُّ من خيانته في ماله، وإن الله سائلكم يوم القيامة) فعندما نقدِّم الباطل على أنه الحق، أو عندما نُخفي الحقيقةَ بلا مبرر، فإننا قد ندمِّر دينَ الناس وآخرتَهم... وفي عالم السياسة خيانة، وذلك حين يدمِّرُ السياسيُّ وطنَه لأجل مصالحِه الشخصيةِ أو الحزبية، وقد روي عن رسول الله (ص) قوله: (أربعٌ لا تدخل بيتاً واحدة منهن إلا خرب ولم يَعمُر بالبركة) والوطنُ كالبيتِ الكبيرِ الذي يجمعُنا (الخيانةُ، والسرقةُ، وشربُ الخمر، والزنا)... فإذا غَزَت أيٌّ مِن هذه المفاسدَ الوطنَ، جلَبَت معها الدمار... وفي عالمِ العلاقاتِ الاجتماعيةِ خيانة... وفي الأمنِ خيانة... وفي كلِّ نواحي الحياة... ولكن أن نكون مؤمنين، فذلك يعني أن نكون الأوفياء في كلّ التزاماتنا ولو مع من نختلف معهم، ما دامت تلك الالتزامات مشروعةً في نفسها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ).