خطبة الجمعة 27 شعبان 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: شهر رمضان وعبادة القمر

- الدعاء الثالث والأربعون من أدعية الصحيفة السجادية تحت عنوان: (وكَانَ مِنْ دُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْهِلَالِ): (أَيُّهَا الْخَلْقُ الْمُطِيعُ، الدَّائِبُ السَّرِيعُ، الْمُتَرَدِّدُ فِي مَنَازِلِ التَّقْدِيرِ، الْمُتَصَرِّفُ فِي فَلَكِ التَّدْبِيرِ. آمَنْتُ بِمَنْ نَوَّرَ بِكَ الظُّلَمَ... سُبْحَانَهُ مَا أَعْجَبَ مَا دَبَّرَ فِي أَمْرِكَ، وأَلْطَفَ مَا صَنَعَ فِي شَأْنِكَ).
- آمنت أممٌ كثيرة عبر التاريخ بأن القمر -هذه الكتلة الصخرية التي خلقها الله سبحانه وتعالى- إلهٌ ذكر (أو إلهة أنثى)، أو ما يتجلى من خلاله الإله.
- أسموه في بلاد الرافدين باسم (نانّا) و(سين)، وأسماه المصريون القدماء (خونسو)، وعند الهندوس (شاندرا)، واعتبره اليونان إلهة اسمها (سيلين)، والرومان (لونا)، وقدّم له الآزتك القرابين البشرية بكل وحشية انتزاعوا فيها القلوب وقطّعوا الأطراف، كل ذلك جلباً لرضاه!
- وفي شمال البيرو، حيث كان يعيش شعب الشيمو Chimú قبل ستة قرون، عُثِر على جثامين أكثر من 140 طفلاً قُدِّموا -دفعةً واحدة- قرابين للإله القمر! ولمثل ذلك يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ) [الأنعام137].
- وأسماه بعض العرب (وَد)، كما نجد ذلك في اسم (عمرو بن عبد وَد) الذي قتله أميره المؤمنين علي (ع) في الخندق، وقد ذُكر هذا الإله الأسطوري في قوله تعالى: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) [نوح:23].
- أي، عندما بعث النبي (ص) كان الناس يعبدون كتلة صخرية.. لا عقل.. لا إرادة.. لا إحساس.. لا كلام.. مجرد حركة دائبة وفق قانون أُجبرت عليه هذه الكتلة الصخرية.
- وما ينطبق على القمر ينطبق على الشمس ككتلة غازية، وعلى سائر النجوم والكواكب.
- ومن هنا كرّر القرآن الكريم التأكيد على أن الشمس والقمر مخلوقان مسخّران للإنسان: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ، وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) [إبراهيم:32-33]، وفي سورة فصلت في آية السجدة جاء النهي عن السجود للشمس والقمر، والأمر بالسجود لله الخالق سبحانه.
- الرسالات السماوية، ومنها الإسلام، أنقذت البشرية من تلك الخرافات والأساطير، ومن الابتعاد عن العلم والحقيقة، وذلك حيث أكّدت على بطلان هذه المعتقدات الخرافية، وهدَت الناس إلى وحدانية الله سبحانه وتعالى.
- وفي الدعاء الذي أشرت إليه في بداية كلامي، تأكيد وتفصيل لهذه الحقيقة، ببيان أن القمر من خلق الله تعالى، وأنه مخلوقٌ مسخّرٌ لصالح الإنسان، فأية حماقةٍ أن يعبد الإنسانُ سوى خالقِ هذا المعبود؟!
- وفي العصر الحديث، جاء العلم ليؤكّد ما بيّنته الرسالات السماوية منذ آلاف السنين من أن القمر ليس سوى كتلة صخرية، لا إله ولا هم يحزنون... بل وأرسل العلماء أفراداً ليطأوا سطح القمر، ويدرسوا طبيعتَه، ومكوّناتِه، وكيفية الاستفادة منه.
- هذه الهداية الإيمانية والمعرفية جزء من الرحمة الإلهية حيث يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [يونس:57]، والآيات الدالة على هذا المعنى عديدة.
- ولم تقتصر الرحمة الإلهية على الهداية الإيمانية، بل بيّن الله تعالى للمؤمنين البرنامج العملي الذي يصبّ في صالح عاجلِ دنياهم، وآجلِ آخرتهم... والتقوى محور ذلك البرنامج العملي، في تحقّق التقوى من خلاله، وفي دور التقوى في تنفيذ البرنامج العملي.
- ولو تتبعنا آيات سورة البقرة ابتداء من الآية 177 إلى الآية 241، أي 65 آية، لوجدنا للتقوى حضوراً لافتاً في مجالات الحياة المختلفة بما يؤكّد الفكرة السابقة.
- فالآية 177 تتحدّث عن المصاديق الحقيقية للبِر... وما مفهوم البِر؟ هو ما يحقّق الخيرَ الكثيرَ للناس، فما هي هذه المصاديق؟
- يقول تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) البُعد الإيماني (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) البُعد العملي (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ) البُعد الأخلاقي (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).
- أي أن التقوى الحقيقية تدفع الإنسان إلى تحقيق الخير الكثير المتمثّل في كل ما سبق.
- ثم تتوالى الآيات الشريفة بعد ذلك لتقدّم مصاديق ونماذج لفاعلية التقوى، ولضرورة حضورها في الجوانب المختلفة من حياة الإنسان:
- ففي الآية 179 حديث عن علاقة التقوى بتطبيق القوانين الجزائية في حياة الناس: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
- الآية 180 تتحدث عن دور التقوى في تحقيق التكافل الاجتماعي: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).
- ثم تتوالى الآيات في بيان حضور التقوى على المستوى الشخصي الخاص بالعبادات، ومن بينها الآية 197 ضمن الحديث عن أحكام الحج: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ) [البقرة:197].
- والآية 194 بيّنت أهمية حضور التقوى على المستوى الأمني: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).
- وفي الآية 224 بيان لضرورة حضور التقوى على المستوى الاجتماعي العام: (وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
- ثم ست عشرة آية تتحدث عن الأحكام الخاصة بالعلاقات الأسرية، حيث يتكرر فيها ذكر التقوى ابتداء من الآية 226 إلى أن نصل إلى الآية 241 حيث يقول تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).
- من كل ما سبق ندرك أهمية تشريع الصيام حيث يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].. لعلكم تتقون في كل أبعاد الحياة... وتحقيق ذلك يتم من خلال الطاعة التامة لله عزوجل.
- وقد بيّنَت خطبة النبي (ص) في استقبال شهر رمضان والتي قرأتها في الخطبة الأولى
ما هي الصورة المفترضة لصيام شهر رمضان، وتداخل هذا التشريع مع تحريك الحس الاجتماعي عند الإنسان.
- ولذا، فإنه عندما لا يفكّر الناس إلا باحتياجاتهم خلال هذا الشهر، وينسون حاجات الآخرين، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة:254]، فهذا خلاف التقوى التي هي غاية للصيام، والصورة المفترَضة لإحياء أمر شهر رمضان كما يريد الله.
- والظروف المعاشية الصعبة التي يعاني منها أهل غزة من خلال العدوان الصهيوني، وسياسةَ الحصار والتجويع القائمة، تستدعي العناية بالعطاء السخيّ لتخفيف معاناتهم، ونتطلع إلى أن يساهم الإخوة والأخوات الأعزاء -وبسخاء- في مدّ يد العون لهم.
- إن التقوى الحقيقية هي التقوى الفاعلةُ والمؤثّرةُ في كلِّ أبعادِ الحياة... على المستوى الشخصي، وفي علاقتِنا بعوائلِنا وأسرِنا، وفي محيطِ عملِنا، وإذا مارسنا السياسة، وفي عالمِ حركة المال، وفي المجالِ العلميِّ والثقافي، وعند مَن يتحمّل جانباً مِن المسئوليةِ الأمنيّة، أو إذا كان أحدُنا طرفاً في خصومةٍ أمامَ القانون، أو غيرِ ذلك من مجالاتِ الحياة. التقوى ليست مجردّ إقامةٍ للصلاة وصيامِ شهرِ رمضان، وإن كانت مِن وسائل تحقيقِها.. والتقوى ليست أثراً على الجبهة، وإن كانت على سبيل الاحتمال من آثارها.. بل التقوى سلوكٌ قويم، والتقوى أخلاقٌ ومبادئُ وقيمٌ يُلتَزَم بها، والتقوى سلامةُ القلب من الحسد والحقد والكِبر، والتقوى طهارةُ اللسانِ والجوارحِ مِن الآثام، والتقوى استقامةٌ في طاعةِ اللهِ تعالى من خلالِ العبادةِ وغيرِها.. فليكن شهرُ رمضانِنا القادمُ محطةً فاعلةً في تزوّدِنا من تقوى الله عز وجل.