مفاهيم أخلاقية من هدي القرآن - التضحية

تعريف التضحية لغة:
- التضحية مصدر من الفعل (ضَحّى) قال ابن فارس: (الضاد والحاء والحرف المعتل أصل واحد يدل على بروز الشيء).
- قال ابن منظور: (وضواحي الإنسان: ما برز منه للشمس كالمنكبين والكتفين... والضواحي من النخل ما كان خارج السور).
- وكلمة (ضُحى) كما في لسان العرب: (ضُحَى: وضَحْوَة؛ وقت ارتفاع النهار).. قال تعالى: (وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى).
- وحيث تشتد الحرارة بارتفاع النهار استُعملت كلمة (يضحى) للدلالة على أن الشخص يتأذّى من حرارة الشمس: (وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ)، أي: لا يؤذيك حر الشمس.
- وفي هذه المعاجم اللغوية القديمة، لا نجد للتضحية معنىً كالذي نستعمله اليوم، والمشتمل على البذل دون مقابل وتقديم مصلحة الغير على النفس... كقولنا: (الأم تضحّي من أجل أبنائها). فمن أين جاءت؟
- في زمن متأخر جداً توسّع العرب في استعمال كلمة (تضحية) لتشمل المعنى الذي أشرنا إليه. ومصدر ذلك كالتالي:
- حيث تذبح وتنحر الأنعام في يوم العاشر من ذي الحجة وقت الضحى لذا سميت (الأضاحي، جمع أضحية). وسمي ذلك اليوم بها، فقيل عيد الأضحى.
- وحيث يبذل الإنسان ذلك من دون مقابل، فقد استحدث من الكلمة عنوان (التضحية) لتشمل كل بذل من دون مقابل وعلى حساب المصلحة الشخصية، ويمكن تعريف التضحية بأنها: (تـخلٍّ إرادي واستغناءٌ اختياري وتنازلٌ بعزيمة وعقلانية عن ميزة أو منفعة أو لذّة أو مُلك شخصي لغاية سامية نبيلة).
- وهكذا لو إذا رجعنا إلى القرآن الكريم والأحاديث الشريفة فلن نجد استعمالاً لهذه الكلمة بهذا المعنى، بل تستعمل في ذبح أو نحر الأنعام... ولكن مفهومها موجود في موارد عديدة كما ستبين.
- ولكن نجد كلمات من قبيل: الإيثار، والفداء، والتقديم، بدائل عن كلمة (تضحية).
الفكرة الثانية: دوافع التضحية:
1. الاستجابة لأمر الله ونهيه.. (دافع إيماني): (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات:37].
2. ومثله، الرغبة في الحصول على العطاء الأخروي.. (دافع إيماني).. (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:111].
3. الحرص على التحلي بمكارم الأخلاق.. (دافع روحي) (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) [هود:69].
4. الحب، الفطري أو الغرائزي.. حب الوالدين للأبناء، أو حب للجنس الآخر. (دافع عاطفي) أم موسى ضحّت برغبتها في بقاء ابنها فألقت في اليم حباً له (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ... وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [القصص:7-10].
5. قوة الشعور بالانتماء (الكاميكازي).. (دافع اجتماعي).. (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].
6. معرفة قيمة التضحية ونتائجه العامة والشخصية.. (دافع عقلي)
ــــ تنبيه: الإخلاص في التضحية مهم، سواء كان الدافع حباً، أو رغبة في عطاء أخروي، أو تمسكاً بمكارم الأخلاق... أياً كان الدافع، علينا أن لا نتوقع المقابل، وإلا:
1ــ سنُتعب أنفسنا، لأننا قد لا نجد تقديراً أو تضحية موازية.. (خاصة من يبالغون في التضحية).
2ـ أو ستكون لنا ردة فعل تمتنع من خلالها عن التضحية ستقبلا. (خيراً تعمل شراً تلقى)
3ــ أو نفسد علاقتنا مع الآخر بالنزاع أو المن.
4ـ أو سندفع الناس للابتعاد عنك خوفاً مما سبق، لأنهم يدركون سلفاً أنك ستطالبهم بالمثل، وهم غير قادرين على ذلك.
الفكرة الثالثة: للتضحية مجال في كل تفاصيل حياتنا.
1) التضحية بالنفس: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ) [البقرة: 216]
ومع هذا: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ) [البقرة:207]
لماذا؟ (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ.... ) التوبة:111
2) التضحية بالمال كما في الآية السابقة
- في الأصل: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:20].
- ولكن المطلوب: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران: 92].
- وقد تكون التضحية بالمال من دون إنفاق: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة:9] حيث تفوت الفرصة في الكسب المادي خلال فترة الصلاة.
- لماذا؟ (رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) [النور: 37]
- وقد تكون التضحية بالمال من دون إنفاق: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:280]
- وقد تكون التضحية بالمال من دون إنفاق: (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر 8]
- التضحية بالوقت والجهد والغربة: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة:122].
- التضحية بالحرية: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) [يوسف :33].

- التضحية بالعيش في الوطن والاستقرار عن طريق الهجرة والتغرب: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنفال: 74-75].
- (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات: 99].
– (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [العنكبوت :26].
- التضحية بالراحة والنوم: (كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 17-18].

- في إطار العلاقات الاجتماعية: في بيت الزوجية مثلاً، تعتبر التضحية من قبل الزوجين من أهم عوامل نجاح العلاقة بينهما: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:21].
- مودة ورحمة ... إذاً لابد من تضحية وإيثار، لأن من لوازم المودة والرحمة تحقق التضحية.
- ضرورة عدم الخلط بين التضحية وأداء أو تحمّل المسؤولية.. الأب مسؤول عن تأمين رزق أبنائه.. هذا تحمّل للمسؤولية وليس تضحية.. الأم مسؤولة مثلاً عن صحة أبنائها.. فعلاجها لأبنائها أداء لوظيفة وليس تضحية.
- هكذا الزوج مسؤول عن النفقة على زوجته.. هذا أداء واجب وليس تضحية.
- والخلط بين هذه الموارد قد يؤدّي أحياناً إلى وقوع نزاع. ولذا نسمع (آنا أضحي... لا غصباً عليك).
- الزوج الذي يضحّي براحته واحتياجاته الشخصية من أجل إسعاد زوجته وأبنائه، لأنهم أولى عنده من نفسه، يَكبر في عيونهم ويُقدَّر له ذلك مِن قبلهم.. ويدفعهم إلى مقابلة هذه التضحيات بالحُسنى، ويدفع الزوجة إلى احترام وتقدير الزوج وتقديم التضحية بالمقابل.. إلا اللهم إذا كنا نتحدث عن زوجة خبيثة النفس عديمة الشعور.. فهذا أمر آخر.
- وهكذا الزوجة التي تُقدِّم التضحيات وتتخذ قرارات قد تكون على حساب طموحاتها وتجد أن سعادتها في إسعاد أسرتها، وهي أولويتها، تحتل مكانة عظيمة في قلوب أفراد أسرتها.. قد لا تَظهر في نفس الوقت.. ولكن فلتثق أنها تحفر عظمتها في قلوبهم.
ــــ للأسف اليوم عن طريق بعض البرامج ودورات تنمية الذات، يتم التركيز فيها على الأنا بقوة، إلى درجة باتت التضحية (سذاجة وخسارة وغباء) في مفهوم الزوج والزوجة.
- الأنا المتضخمة يمكنها أن تدفع قوياً نحو تفكيك الأُسَر بالطلاق والنزاعات البينية المستمرة، فالزوج لا يفكّر إلا بإشباع رغباته، ويتنقّل كل يوم من امرأة إلى أخرى تحت عنوان الزواج المؤقت، وأسرته آخر اهتماماته.
- والزوجة لا تريد من زواجها إلا ما يحقق لها أحلامها الوردية في السفر، وعمليات التجميل غير المبررة، والإنفاق ببذخ، وأمثال ذلك.
- التضحية في إطار العمل الرسالي، ومسؤولية الموقع الذي يشغله الإنسان وظيفياً.
في نهج البلاغة في الكتاب [62] من كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها: (أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً (ص) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَمُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ فَلَمَّا مَضَى (ع) تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ فَوَاللَّهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ (ص) عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ (ص) فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ).