إن الإنسان ليطغى - الشيخ علي حسن

(إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) العلق:6-7. تشتمل هذه الآية القرآنية على معادلة واضحة مفادها أن الإنسان متى ما امتلك عناصر القوة في الجسد أو في المال أو النفوذ والجاه بما يتفوق به على الآخرين، فإنه سيكون قابلاً لأن يطغى على من سواه، إذ يشعر بهذا التفوق وبتقدمه على الآخرين وبحاجتهم إليه وبقدراته التي تمكنه من استضعافهم أو التنكيل بهم أو التحكم بأمورهم أو اغتصاب حقوقهم ضمن دائرة قوته وتفوقه.
طغيان إبليس وفرعون:
فإبليس كان أول طاغوت فيما حكاه عنه القرآن الكريم: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) النساء:76، لأنه شعر بتفوقه على المخلوق الجديد: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) ص:76، ولذا طغى وتجاوز الحد في علاقته بربه وفي علاقته التي حددها له ربه مع آدم حين أمره بالسجود له، فكان طاغوتاً وفق التعبير القرآني.
وهكذا كان فرعون طاغوتاً حين وجد عناصر القوة متوفرة عنده، فادّعى الربوبية العليا، ثم الألوهية، ثم ادعى انحصارها فيه، فكان أثر طغيانه أن أفسد في الأرض: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) القصص:4.
الإنسان الطاغية:
كل واحد منا معرّض أن يكون طاغوتاً، ولو في دائرة محدودة، فرب الأسرة قد يكون طاغوتاً حين يرى امتيازه من خلال رجولته والعنوان الذي يحمله كأب، وهنا يشعر بالاستغناء، وبالتالي قد يطغى حين يكون جباراً على زوجته، ظالماً لها، متحكماً بمصيرها وفق صلاحياته بما يتعارض مع مصلحتها وحدود ما شرّعه الله. وهكذا يكون جباراً على أبنائه حين يلغي شخصياتهم تماماً ويحوّلهم إلى مجرد أدوات لا رأي ولا تفكير ولا حركة لهم إلا من خلاله، وقد يصل التعسف إلى مراتب أخرى أشد.
وقد تطغى الزوجة حين تجد الزوج ضعيف الشخصية مهمّش الرأي، فتتعسف في تعاملها معه، وتلغي دوره كرب للأسرة، وتستضعفه وتظلمه، لأنها تجد في نفسها مقوّمات القدرة التي تتقدم فيها عليه.
وقد يطغى عالم الدين حين يسمع خفق النعال من حوله، فيتعالى على الناس، ويستغل موقعه المتقدم لينال شيئاً من زخرف الدنيا بعناوين دينية. وقد يطغى مدير الإدارة في دائرته فيظلم موظفيه.. وهكذا هو الأمر في كل موقع من مواقع الحياة.
التقوى صمام الأمان:
أما المتقون فإنهم يتسمون بحالة من الاتزان في تفكيرهم وفي قراراتهم وفي تصرفاتهم، فلا يطغون، ولذا نجد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حين امتلك كل عناصر القوة والتقدم على الآخرين في فتح مكة، لم يدفعه الاستغناء إلى الطغيان، بل عفا وأطلق وقال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
وأمير المتقين علي عليه السلام حين امتلك كل عناصر القوة في معركة الجمل بعد انتصاره فيها لم يدفعه الاستغناء إلى أن يطغى بل منع أنصاره من أن يجهزوا على جريح أو يتبعوا هارباً. وحين تلقى الضربة الغادرة من ابن ملجم لم يدفعه موقعه كحاكم للانتقام، بل نهى عنه حين أوصى قائلاً: (يا بني عبد المطلب: لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قُتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلن بي إلاّ قاتلي، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يُمثل بالرجل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور). كما أنه أوصى بذلك مالكاً الأشتر حين أرسله إلى مصر فكتب: (وأشعِر قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لهم واللطف بهم، ولا تكونّن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم).
نهضة الحسين:
وقد كانت مسيرة الأنبياء والأوصياء والمصلحون دائماً ضد الطغيان، سواء أتمثّل في شخصٍ كفرعون، أو في مجتمع كقوم ثمود وعاد و أهل سبأ.. وكانت نهضة الإمام الحسين عليه السلام في ذات الاتجاه، ثورة ضد الطغيان، وكل من يريد أن يكون حسينياً ويتمنى قائلاً: (ياليتنا كنا معكم) فعليه أن ينخلع من عنوان الطاغوت ولو في دائرة طغيان صغيرة، ويكون من المتقين، وإلا فإنها لن تعدو أن تكون تمنيات زائفة وخداع للنفس وللآخرين.
الحكومة والامتحان القادم:
وقد شهدنا في ساحتنا الكويتية ما شهدناه خلال الأسابيع القليلة الماضية من أحداث وتصريحات ومواقف على أكثر من صعيد، ويبدو أن الأيام القادمة ستشهد رجحاناً واضحاً للكفة الحكومية ولاعتبارات عديدة، وما نتمناه أن لا يتحول هذا الموقع المتقدم والاستغناء إلى عامل يفقد الحكومة والأطراف المؤيدة لها في مجلس الأمة توازنها، ألا تفقد التوازن الذي قد يوقعها في محذور: (إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) تماماً كما طغت بعض التيارات السياسية والدينية في مجلس الأمة حين استغنت في فترات سابقة، وسعت لإلغاء مَن سواها، وإدخال البلد في متاهات سياسية وعرضتها لمخاطر أمنية وفتن مذهبية وحزبية ومناطقية وقبلية.
إن من أهم عناصر القوة في كويتنا الحبيبة مساحة الحريات التي يغبطنا عليها الكثيرون، بل وقد تسعى بعض الأطراف الخارجية لسلبنا إياها خوفاً أو حسداً، وهذه المساحة من الحريات هي التي حفظت للكويت حيويتها على كافة الأصعدة في الساحة العالمية. وما ندعو إليه هو ألا يتحول التغير في ميزان القوى لصالح الحكومة والأحداث الأخيرة إلى عامل للدفع نحو تكبيل شئ من تلك الحريات كما هو مشهود في بعض التغييرات المزمعة على قانون المرئي والمسموع مثلاً.. نعم نحن مع الحرية، ولكن الحرية المسؤولة، وهذا ما ننادي به دائماً، فالحرية لا تعني تدمير البلد، وخرق النظام، وتجاوز القانون، وإشاعة الفوضى، وزرع الفتن، بل هي عنصر بناء وترسيخ للمبادئ وتدعيم للنظام ودفع للإبداع، وهذا ما نتمنى أن يستوعبه الجميع ويترجموه في مواقفهم وأفعالهم.