هل سيولد من جديد؟! ـ مقال للشيخ علي حسن غلوم

ولد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكان مولده إشراقة شمس أضاءت للإنسانية آفاق الحياة، فأخرجتها من ظلمات الباطل إلى نور الحقيقة، ومن رجعية التقليد إلى روعة الإبداع، ومن مضائق التعصب إلى رحابة الموضوعية. وإذا كان التعصب بمفرداته المختلفة، وتقديم الذات على كثير من العناوين الأخرى كالمصلحة العامة والتضحية من أجل المبدأ، من أبرز سمات المجتمع الجاهلي، فقد نجح النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تغيير معالم الشخصية الجاهلية في نقلة نوعية جعلت من الجاهلي إنساناً متعقّلاً وموضوعياً وباحثاً عن الحقيقة، فقد كانت الموضوعية سمة الدعوة المحمدية في منهجها الفكري والأخلاقي، الأمرَ الذي مثّل انقلاباً في شخصية الجاهليين الذين كانت تحكمهم نوازعهم وانتماءاتهم.



التعصب:



?وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ? (المائدة:104).. هكذا كانوا في تعصبهم الذي يدور حول الذات، أو الانتماء القبلي أو القومي، فأغلق عليهم منافذ الهداية وألجم عقولهم عن الانطلاق للتفكير بعمق في كلمات رجلٍ منهم، خبروا فيه الصدق فلم يجدوا في قوله كذبة، وعهدوا منه الأمانة فلم يعرفوا منه خيانة.



الموضوعية في الفكر:



?وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ? (سـبأ: من الآية24)، وهذه الآية تمثل القمة في الأسلوب الموضوعي في التفكير ومحاولة الوصول إلى الحقيقة بعيداً عن التعصب للذات حيث يساوي الإنسان الآخر بنفسه، على الرغم من اختلافه معه وقناعته بالخطأ في موقفه.

وإذا تربّى المسلم على هذه الروحية، وفكّر بهذا المنطق، فسيصل إلى النتائج التالية:

-1 سيعرف كيف يستمع إلى الآخر.

-2 سيحترم الآخر، فلا يوجّه له رسائل السخرية والاستخفاف التي تمثّل حاجزاً نفسياً أمام التعاطي الفكري مع الموضوع.

-3 سيتفهّم تأثير الخلفيات النفسية والاجتماعية والسياسية على الآخر، فلا يسارع إلى الحكم عليه بالمروق والخيانة والتعصب وما شابه ذلك، فلعله يملك عذراً يبرّر به موقفه، كما نبحث لأنفسنا عن الأعذار التي تبرر لنا مواقفنا.

-4 سييسّر إمكانية التعرّف على نقاط الالتقاء عند الطرفين.

-5 سيوفّر المناخ النفسي الملائم للقناعة بالفكرة التي تدعمها الحجة، ويسندها الدليل بوضوح.

-6 سيهيئ للآخرين المناخ الذي يمكّنهم من تفهّم القناعات التي نتبنّاها.

-7 سيوفّر لنا الجو الهادئ البعيد عن الحماسة المنفعلة التي تغلق منافذ العقل وتبعدنا عن التركيز في الفكرة وفي وسائل الدفاع عنها، وفي عناصر الهجوم على الفكر الآخر.



الموضوعية في العلاقات:



?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً? (النساء:135)، فالعدل هو أساس العلاقات القائمة بين الناس، فما ينسجم مع العدل يجب أن ينسجم مع موقف المسلم، ولو كان على حساب عاطفته أو مصلحته أو العناوين التي ينتمي إليها.

ومن هنا استغرب المسلمون الذين عاشوا هذه المفردة المهمة في الأخلاق والسلوك حين قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً). فقيل: (كيف أنصره ظالماً؟!) لأن هذا يتنافى مع عنوان العدل، والعدل ينطلق من النظرة الموضوعية للأمور وللأشخاص في إطار العلاقات الإنسانية التي طالما أكّد عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تربيته لأصحابه من خلال القرآن الكريم ومن خلال توصياته الشخصية، فأجابهم بما يتناسب مع ذات الخط والمنهج الذي تؤطّره حركة العدل في الحياة: (تردّه عن ظلمه، فذاك نصرك إياه).

وعليه جاء التأكيد المتكرر على ضرورة إنصاف الآخرين ولو من النفس، واعتباره من الدلائل الحقيقية على الإيمان، فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من واسى الفقير وأنصف الناس من نفسه فذلك المؤمن حقاً) مع بيان صعوبة الأمر لتعارضه مع أهواء النفس والتربية السلبية، فعنه صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة لا تطيقها هذه الأمة: المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه، وذكر الله على كل حال).



الإمام الصادق على خطى جده:



وقد عمل أئمة أهل البيت عليهم السلام على ترسيخ هذه المفردة على صعيديها الفكري والأخلاقي، وتجلى ذلك في عدة نصوص، منها ما ورد عن سادس الأئمة جعفر بن محمد الصادق عليه السلام. فقد روى المفضل بن عمر أنه سمع أحد الزنادقة يتحدث في شأن التوحيد ما لا يليق بالله سبحانه، فلم يملك غضبه فقال: (يا عدو الله، أَلَحدتَ في دين اللّه، وأنكرت الباري جل قدسه.. إلى آخر ما قال له. فقال الزنديق: يا هذا، إن كنت من أهل الكلام كلَّمناك، فإن ثبتت لك الحجة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا يخاطبنا، ولا بمثل دليلك يجادلنا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت فما أفحش في خطابنا ولا تعدّى في جوابنا، وإنه للحليم الرزين العاقل الرصين، لا يعتريه خُرْق ولا طيش ولا نزَق، يسمع كلامنا ويُصغي إلينا ويستغرق حجتنا، حتى إذا استفرغنا ما عندنا وظننا أنا قد قطعناه، أدحض حجتنا بكلام يسير وخطاب قصير يلزمنا به الحجة ويقطع العذر ولا نستطيع لجوابه رداً، فإن كنت من أصحابه فخاطِبنا بمثل خطابه).



المسلمون تائهون:



أما اليوم، فإن سمة المسلمين ـ عموماً ـ أبعد ما تكون عن الموضوعية، وأقرب إلى التعصب، فقد أصدرت مؤسسة Pew Global Attitudes نتائج استطلاع للرأي في عام 2006 جاء فيه أن %83 من الإسبان، و%78 من الألمان و%50 من الفرنسيين و%48 من البريطانيين و%43 من الأمريكيين يرون أن المسلمين متعصبون.

بالطبع هذا لا يُخلي مسؤولية الآلة الإعلامية الغربية وأحداث 11 سبتمبر وتبعاتها وسياسة الرئيس الأمريكي السابق بوش في إبراز صورة سلبية عن المسلمين، إلا أن الواقع الذي يشهد به المسلمون على أنفسهم يؤكد هذه الحقيقة، ويبرز المشكلة بشكل واضح لا يدع معه مجالاً لتعليق عبئها على شماعة صراع الحضارات.

لقد أشرق نور محمد قبل أكثر من 1400 عام، فأخرج الناس من الظلمات إلى النور... فهل سيشرق نور محمد من جديد في عقول المسلمين وقلوبهم؟





تاريخ النشر 14/03/2009 جريدة الوطن الكويتية ـ صفحة منتقى الجمان