لو عاد بنا الزمن ـ الشيخ علي حسن

لو كنا نعيش في العصر الذي شهد واقعة الطف بكربلاء، وما تبعها من مآسي وجرائم كحصار المسجد الحرام وتدمير الكعبة بالمنجنيق ثم واقعة الحرة وما تبعها من استباحة مدينة رسول الله ثلاثة أيام لجيش الأمويين.. هل كنا سنحمّل الإمام الحسين عليه السلام مسؤولية تلك الأحداث والمآسي؟
التقييم الواقعي:
من السهل جداً أن نجيب اليوم ـ وعفوياً ـ على السؤال ما دمنا موالين للحسين، ومادام الأمر لا يمس واقع حياتنا.. لا يمسّنا كأفراد، ولا يؤذي أحبابنا، ولا يفقدنا ممتلكاتنا، ولا يزلزل مناصبنا، ولا يفسد علينا رفاهيتنا.. فما جرى مسَّ أناساً عاشوا في الماضي.. ومن السهل أن نلقي عليهم باللائمة لمواقفهم السلبية، أو نمتدحهم لمواقفهم الإيجابية. ولكن لا ينكشف الواقع إلا حين نُبتلى نحن بما ابتلي به الآخرون، وعندها يكون المحك الحقيقي والتقييم الواقعي.
كلمة القرآن:
القرآن الكريم يعيب منطق تحميل المسؤولية لحمَلة الرسالة.. للمجاهدين الذين يقدّمون التضحيات، ويدافعون عن المقدسات وعن الأمة، ثم يصب أعداؤهم جام غضبهم عليهم وعلى الأبرياء في محاولة للضغط على الرأي العام الداخلي وبالتالي الضغط على المجاهدين للاستسلام والرضوخ للواقع الذي يريد الطواغيت فرضه. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّـهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّـهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّـهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) آل عمران: 156-157.
إن القرآن الكريم يعتبر أن الأمة التي تحترم قضيتها ووجودها وعزتها وإنسانيتها وحاضرها ومستقبلها هي الأمة التي تعض على الجراح من أجل القضية.. وحينئذ ستكون الأمة التي يمجّدها التاريخ ويخلّد مواقفها البطولية وتضحياتها الجسيمة، أما الأمة التي تنقلب على أحرارها وتخون قضيتها فهي الأمة التي سيلعنها التاريخ وستلطِّخ بسواد العار صفحاته. قال عز اسمه (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ... أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّـهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ... وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّـهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ... وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ... إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) الآيات مختارة من آل عمران: 139-175.
تجربة الشهيد الصدر:
عندما نهض الشهيد محمد باقر الصدر وأصحابه ضد طواغيت البعث في العراق، فاستشهد من استشهد واعتُقل من اعتقِل وهُجِّر من هجِّر وارتكبت المجازر في حق الأبرياء، نهض البعض ـ وما زالوا ـ ليلقوا باللائمة عليه وعلى أصحابه، معتبرين أن السكوت أمام الظلم والطغيان البعثي أولى ويمثل الموقف الشرعي!
وعندما أصرّت المقاومة البطلة في لبنان على التصدي للطغيان الصهيوني في حرب تموز 2006 وذاق أهلها الأمرّين من الهمجية الإسرائيلية، ارتفعت أصوات البعض ملقية باللوم على المقاومة وسيدها ليحملوهم مسؤولية هذا العدوان! والمفارقة أن المتضررين أنفسهم في الأهل والمال وقفوا مع المقاومة وساندوها ونصروها وعادوا إلى بيوتهم بمجرد إعلان الصهاينة وقف العدوان متحدّين بذلك كل نداءاتهم بالتحذير من العودة أملاً في خلق ضغط شعبي يُسقط المقاومة ويكبّدها هزيمة داخلية، بينما وقف المسترخون في أحضان التبريرات موقف اللوم والتقريع والتجريح!
المنطق الزينبي:
يجب أن يكون منطقنا منطق العقيلة زينب المثخنة بجراحات عاشوراء ومآسيها حين قال لها الطاغية عبيدالله بن زِيَادٍ: (كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وَ أَهْلِ بَيْتِكِ؟ فَقَالَتْ بشجاعة فاطمية علوية: مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلاً، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَ سَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَ تُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلْجُ يَوْمَئِذٍ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ مَرْجَانَةَ) .
فإما أن نحيي عاشوراء إحياء حقيقياً نابعاً عن وعي وإدراك لحقيقة أهداف الثورة وامتداداتها، فنكون حسينيين وزينبيين حقاً، فيكون منطقُنا وموقفُنا منطقَ وموقفَ الحسين وزينب، وإما أن نعترف بأننا كما قال الحسين نفسه: (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم فإذا مُحصوا بالبلاء قل الديانون).
أملي أن نعمّر مجالس الحسين التي تحيي ذكرى ثورته العظيمة عن وعي ومسؤولية، وألا نحوّل إحياءنا لها إلى إحياء فلوكلوري نابع من عادات وتقاليد موروثة أو لمجرد إسقاط تكليف، وكأن المهم هو مجرد حضور المجلس الحسيني، لا أن تحقق لنا هذه المجالس الارتباط الحقيقي بنهضة الإمام الحسين وأهدافها الخالدة، فإن من يعمّر المجالس التي تسئ إلى هذه الثورة بالأكاذيب والأحاديث الباطلة والتصرفات اللامسؤولة إنما يعمل على تشجيع الباطل، ومن يشجع الباطل إنما يكون في خط يزيد وابن زياد وعمر بن سعد لا في خط الحسين وأخته العقيلة زينب.