زيــــارة المــراقــــــد ـ مقال للشيخ علي حسن غلوم

لستُ من المهتمين بإثارة القضايا الخلافية بين المذاهب الإسلامية، ولا أحب أن أستغرق كثيراً في الماضي الذي لربما يبعدنا عن معطيات الواقع الذي نعيشه، ويفرض علينا أجندةً خاصة في التعامل مع القضايا المعاصرة، إلا أن إصرار البعض على تحويل الخلافيات إلى ممارسات على الأرض تستفز هذا وتستثير ذاك، لا يترك الخيار إلا بمحاولة تقديم علاج علمي وآخر عملي، لعل وعسى أن تنجلي الصورة وتهدأ النفوس وتُحلّ العقد.

ومن القضايا التي أثيرت مجدداً وأخيراً - على الأرض - مسألة زيارة مراقد النبي وآله وأصحابه والأخيار من هذه الأمة، في كيفيتها وفي تفاصيلها. وسأحاول تقديم وصفة علاجية علمية وعملية أملاً في تحقيق شيء على الأرض أيضاً. وسأعتمد فيما أطرحه من آراء علمية على ما جاء في الموسوعة الفقهية الصادرة عن وزارة الأوقاف الكويتية. جاء فيها - مع الاختصار:

- مفهوم الزيارة: الزِّيَارَةُ: اسْمٌ مِنْ زَارَهُ يَزُورُهُ زُورًا وَزِيَارَةً ، قَصَدَهُ مُكْرِمًا لَهُ. وَزِيَارَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ تَتَحَقَّقُ بِزِيَارَةِ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

- الحكم التكليفي: أَجْمَعَتِ الأُمَّةُ الإِسْلامِيَّةُ سَلَفًا وَخَلَفًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ زِيَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى فِي الْمَذَاهِبِ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، تَقْرُبُ مِنْ دَرَجَةِ الْوَاجِبَاتِ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَذَهَبَ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ أَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ عِيسَى الْفَاسِيُّ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ.

- دَلِيلُ مَشْرُوعِيَّةِ الزِّيَارَةِ: مِنْ أَدِلَّةِ مَشْرُوعِيَّةِ زِيَارَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَوْله تَعَالَى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا }فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَقَدْ صَحَّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ)، وَإِنَّمَا قَالَ: هُمْ أَحْيَاءٌ أَيْ لأَنَّهُمْ كَالشُّهَدَاءِ بَلْ أَفْضَلُ، وَالشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِالْعِنْدِيَّةِ الإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ حَيَاتَهُمْ لَيْسَتْ بِظَاهِرَةٍ عِنْدَنَا وَهِيَ كَحَيَاةِ الْمَلائِكَةِ... وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَزُورُوا الْقُبُورَ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ) فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ عَامَّةً، وَزِيَارَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى مَا يُمْتَثَلُ بِهِ هَذَا الأَمْرُ، فَتَكُونُ زِيَارَتُهُ دَاخِلَةً فِي هَذَا الأَمْرِ النَّبَوِيِّ الْكَرِيمِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي). وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ: (مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي).

- من آداب زيارته: أَنْ يُتْبِعَ زِيَارَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزِيَارَةِ صَاحِبَيْهِ شَيْخَيِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَنْهُمْ جَمِيعًا، أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَقَبْرُهُ إِلَى الْيَمِينِ قَدْرَ ذِرَاعٍ، وَعُمَرَ يَلِي قَبْرَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى الْيَمِينِ أَيْضًا. مَا يُكْرَهُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:... التَّمَسُّحُ بِقَبْرِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِشُبَّاكِ حُجْرَتِهِ. أَوْ إِلْصَاقُ الظَّهْرِ أَوِ الْبَطْنِ بِجِدَارِ الْقَبْرِ.

- حُكْمُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ: لا خِلافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء فِي أَنَّهُ تُنْدَبُ لِلرِّجَالِ زِيَارَةُ الْقُبُورِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ بِالآخِرَةِ)، وَلأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْبَقِيعِ لِزِيَارَةِ الْمَوْتَى وَيَقُولُ: (السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ). وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: (أَسْأَلُ اللَّهَ لِي وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ). أَمَّا النِّسَاءُ، فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ تُكْرَهُ زِيَارَتُهُنَّ لِلْقُبُورِ... وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي الأَصَحِّ - إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلنِّسَاءِ زِيَارَةُ الْقُبُورِ كَمَا يُنْدَبُ لِلرِّجَالِ.. وَقَالَ الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ لِتَجْدِيدِ الْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّدْبِ وَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُنَّ فَلا تَجُوزُ، وَعَلَيْهِ حُمِلَ حَدِيثُ (لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ)، وَإِنْ كَانَ لِلاعْتِبَارِ وَالتَّرَحُّمِ مِنْ غَيْرِ بُكَاءٍ، وَالتَّبَرُّكِ بِزِيَارَةِ قُبُورِ الصَّالِحِينَ فَلا بَأْسَ - إِذَا كُنَّ عَجَائِزَ - وَيُكْرَهُ إِذَا كُنَّ شَوَابَّ، كَحُضُورِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ... وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْكَرَاهَةِ زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ يُنْدَبُ لَهُنَّ زِيَارَتُهُ، وَكَذَا قُبُورُ الأَنْبِيَاءِ غَيْرِهِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِعُمُومِ الأَدِلَّةِ فِي طَلَبِ زِيَارَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

- آدَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: السُّنَّةُ زِيَارَتُهَا قَائِمًا، وَالدُّعَاءُ عِنْدَهَا قَائِمًا، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْبَقِيعِ... وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: يَدْعُو قَائِمًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَقِيلَ: يَسْتَقْبِلُ وَجْهَ الْمَيِّتِ... وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ:... وَأَنْ يَقْرَأَ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَيَدْعُوَ لَهُمْ، وَأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْمَزُورِ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، وَأَنْ يَتَوَجَّهَ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَعَنِ الْخُرَاسَانِيِّينَ إِلَى وَجْهِهِ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ... وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: سُنَّ وُقُوفُ زَائِرٍ أَمَامَهُ قَرِيبًا مِنْهُ... وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لا بَأْسَ بِلَمْسِ قَبْرٍ بِيَدٍ لا سِيَّمَا مَنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ.

- الخلاصة: إن هذا التشنج الحاصل عند البعض لا معنى له مع وجود هذه الفتاوى الصادرة عن أئمة المذاهب الإسلامية السنية المختلفة التي أباحت الكثير من العناوين أو اعتبرتها واجبة أو مستحبة، واعتبرت البعض منها من المكروهات. بل حتى مع وجود ما هو محرم - على فتوى البعض - فهو معارض بفتاوى بعض المذاهب السنية التي تبيحها أو تعتبرها من المكروهات، ولا تدخل في إجماعات فقهية تحسم الموضوع. وهذا يعني أمرين:

1- أن المسألة في تفاصيلها ليست خلافاً بين السنة والشيعة، بل بين أصحاب منهج متطرف وبين سائر المسلمين.

2- توفر أرضية علمية للنقاش والحوار (لاسيما مع الخطوة الجريئة التي قام بها عاهل المملكة العربية السعودية بضم فقهاء المذاهب الأربعة إلى المجلس الفقهي مؤخراً)، وهو ما نتمنى حصوله لكي نقضي على أية احتمالات أو مظاهر للفتن والإثارات قد تبرز مستقبلاً، لا سيما على الأراضي المقدسة وفي الأجواء المقدسة التي يُفترض فيها أن تجمع وتوحد، وبملاحظة حرص المسلمين من أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام لحضور الجمعة والجماعات التي تقام في مساجد مكة والمدينة وخصوصاً في الحرمين الشريفين تأكيداً على الوحدة وسعياً لتحقيق الألفة.

وإذا كان لدى المسؤولين على تنظيم شؤون البقاع المقدسة ملاحظات حول بعض ما يُفعل أو يُقال في مجموعات الزيارة عند البقيع فيمكن أن يناقش ضمن مؤتمر عام يجمع الفقهاء والمسؤولين من الطرفين، ومن ثم الوصول إلى قرارات وحلول توافقية يبلّغ بها أصحاب الشأن بطريقة حضارية.

رسالة إلى المرجعية: كما وأتمنى من مراجعنا العظام أن يوجهوا في رسالة واحدة وبكلمة حاسمة خطاباً إلى المسؤولين في المملكة العربية السعودية وإلى علمائها وإلى الأزهر الشريف لعقد هكذا لقاء وعلى أعلى المستويات أملاً في الوصول إلى حلول جذرية لقضية لا يريد أي غيور على الأمة أن تتحول إلى معول هدم في كيانها. وقد نشرت في عدد سابق مضمون الرسالة الجوابية الإيجابية التي بعث بها الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم رحمه الله حيث يتجاوب فيها مع طلب الفقيه الراحل الشيخ الزنجاني رحمه الله بخصوص أحد التكفيريين، مما يؤكد إمكانية حل قضايانا بالحكمة لا عن طريق حوار الطرشان.

رسالة إلى الزائرين: كما أوصي إخواني وأخواتي الزائرين بضرورة مراعاة الحال، وتجنب ما من شأنه إحداث الفتنة، وترك ما من شأنه أن يستفز الآخرين حفاظاً على وحدة الكلمة ومراعاةً لحرمة المكان.

تاريخ النشر 07/03/2009
جريدة الوطن الكويتية صفحة منتقى الجمان