واقع الحاج المعاصر - المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله

إننا نلاحظ حشداً كبيراً من البشر، الذين يفدون إلى بيت الله الحرام من مشارق الأرض ومغاربها، من مختلف القوميات والألوان، ونستمع إلى كثير من الأصوات التي تعجّ بمختلف اللّغات، وإلى الإبتهالات التي ترتفع إلى الله من شفاه المؤمنين ومن قلوبهم مستغفرة شاكية باكية، ونشاهد كيف تتقايض الدموع الخاشعة من العيون الحائرة القلقة التي تتطلع إلى غفران ذنوبها، وتكفير آثامها والفوز بالجنة والنجاة من النّار.. ونتابع الحجيج في خطواتهم وأعمالهم، فنلاحظ الإلحاح على تجميد شعائر الحج في نفوسهم، في محاولةٍ للحفاظ على الشكل بعيداً عن المضمون.. فإذا دخلت إلى مجتمعاتهم فإنك سترى العلاقات العادية، التي اعتادوها في بلادهم التي جاءُوا منها، بكل ما تشتمل عليه من سلبيّات، وما تفرزه من نتائج سيّئةٍ تعبث بأجواء الحج أيما عبث، وتسيء إليه أيّما إساءة.. وهكذا لا تجد هناك مجتمعاً يترابط أفراده بالهدف الواحد، بل نجد أفراداً يعيشون شكل المجتمع من دون معنى أو روح..
هذا في المدلول الذاتي للحج إن صح التعبير.. فإذا تطلّعت من جديد إلى الجوّ الداخلي للمسلمين، فماذا تجد؟ إنك ستجد الاختلافات المذهبية بين المسلمين تتحجّر وتتجمّد في صيغ جامدة لا يملك أصحابها تحريكها أو توجيهها، أو إفساح المجال لها لتتنفس الهواء النقي الذي يجدّد لها أفكارها، ويبعث فيها المرونة والحيويّة، التي تدفعها إلى الحركة والحوار، حتى كأن الفكر الإسلامي لدى كل فئةٍ وقف في بعض لحظات التاريخ عند أشخاص معينين، وكفّ عن الحركة في المراحل الزمنية الأخرى.. ولعل من المفارقات أن الكثيرين ممن يقلّدون المجتهدين لا يدّعون لهم العصمة في رأي واجتهاد، ولكنهم لا يحاولون أن يناقشوهم في فتاواهم أو آرائهم، بل يثيرون الغبار في وجه كل من يحاول ذلك.. وقد لا يقتصر الأمر على ذلك بل يتعداه إلى المحاولات المتشنجة التي يقوم بها كل طرف إسلامي ضد الأطراف الأخرى في أساليب متنوعة فيما تملكه من عناصر الإثارة التي لا تقوم على أساس من الفكر الهادئ المتّزن والأسلوب الإيماني المنفتح، الذي أرشدنا الإسلام إليه ودعانا إلى ممارسته في ما نختلف فيه من فكر، وفي ما نتنازع فيه من أمر.. وبذلك يتحول هذا المجتمع الإسلامي إلى مجتمع تتزايد فيه المشاحنات والأحقاد بدلاً من أن يكون مجتمعاً تذوب فيه كل هذه العوامل السلبيّة..
أمّا الجانب السياسي فقد لا تجد فيه أية حركة إيجابية جادة تتناول قضايا المسلمين بالدرس والمناقشة والمعالجة، سواء فيما يتعلق بالأوضاع السياسية التي يعيش فيها المسلمون مشاكل الحرية والعزة والكرامة، بسبب وقوعهم تحت قبضة الاضطهاد الاستعماري والفكري والعنصري، أو في ما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية التي تتصل بثرواتهم المعدنية والزراعية، في ما يواجهه المسلمون من محاولات ظالمة في الضغط المتواصل، من قبل الدول المستعمرة، لتعطيل خطط التصنيع والإنتاج في سياسة الاكتفاء الذاتي التي يتطلع إليها العالم الإسلاميّ، وذلك لإبقاء هذه الشعوب سوقاً استهلاكية لمنتجاتها.. إننا نواجه هذا الواقع الذي يتحدّى وجودنا الإسلامي في الصميم، ونشعر ـ معه ـ بغياب الإرادة الإسلاميّة الواحدة في مواجهته وتغييره..