خطبة الجمعة 1 ذوالقعدة 1434 : الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: التعصب


ـ عُرِّف التعصب بأنه (شعور داخلي يجعل الإنسان يرى نفسه على حق ويرى الآخر باطل، بالمستوى الذي ينعكس على صورة ممارسات ومواقف ينطوي عليها احتقار الآخر أو عدم الاعتراف بحقوقه أو إنسانيته، بل قد يصل إلى حد عدم الاعتراف بوجوده!).
ـ وقد تقرر في علمي النفس والاجتماع أن للمتعصب سمات من أهمها: (اللجوء إلى العنف لتحقيق الغايات ـ التمركز حول الذات وعدم تقبل الحوار من الآخرين ـ الغرور والتمسك بالباطل ـ عدم الموضوعية في تناول القضايا الخلافية ـ التسلط والجمود في التفكير)
ـ ومن الواضح أن هذه السمات كفيلة بأن تترك آثاراً مدمرة في الوسط الذي يتفاعل معه صاحب الشخصية المتعصبة. وإنما قلت (يتفاعل معه) ولم أقل (يعيش فيه) لأن تأثير مثل هذه الأمراض يتجاوز الزمن من خلال كتاب يؤلفه ويحمل أفكاره، كما ويتجاوز المكان من خلال تسجيل فيديو يبثه مشحوناً بانعكاسات تعصبه.
ـ ولك أن تتخيل المدى التخريبي للشخصية المتعصبة فيما لو كان يملك موقعاً قيادياً متقدماً على المستوى السياسي أو الإداري أو الديني أو غير ذلك.
ـ وبمقدار خطورة أن يتسم صاحب الموقع المتقدم بالتعصب، فإن التعصب الجماعي لا يقل خطورة عن ذلك، إن لم نقل بأنه أخطر حتماً. فقد نجد أحياناً فئةً اجتماعية أو حزباً أو تياراً أو ديناً أو مذهباً قائماً على التعصب.. فأي أثر مدمّر لذلك؟
ـ ولكن هل يُفتَرض بالدين الإسلامي أن يبني شخصية متعصبة؟ مع ضرورة أن نفرق بين أهمية تمسك الإنسان بدينه الذي اختاره عن قناعة وإدراك، والالتزام بتعاليمه وأحكامه، وبين التعصب.
ـ المفترض بتتبع النصوص الدينية وسيرة النبي(ص) أن نصل إلى قناعة مفادها أن العصبية في إطار المفهوم الذي نتحدث عنه أمر مبغوض ومرفوض، وقد كتب عن هذا كثير من العلماء والباحثين، وقد قال تعالى في ذم المشركين: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)[الفتح:26]، وعن النبي: (من كان في قلبه حبّة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية) وعن الصادق(ع): (من تعصّب أو تُعصّب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه). ولكننا مع هذا نجد للعصبية حضوراً، لا على المستوى العرقي والقومي والقبلي فحسب، بل حتى على المستوى الديني.. ومن أسباب ذلك:
1ـ سبب شخصي، كأن يكون ذا شخصية متعصبة في شتى الأمور.
2ـ سبب ظرفي، كأن يكون تعصبه نتيجة ردود فعل معينة على أوضاع قائمة.
3ـ سبب بيئي، كأن يتواجد في بيئة متعصبة فيتأثر بها وينساق وراءهم ملغياً عقله.
4ـ سبب معرفي، كأن يكون جاهلاً بحقيقة تعاليم الإسلام. أو أن يمارَس بحقِّه التجهيل في نفس الوقت ويُزرع في نفسه التعصّب من قبل من يفترض بهم أن يحملوا المعرفة الدينية.. والنتيجة أن يكون جهله وتعصبه نابعين من علماء الدين أنفسهم! وهذا من أخطر الأسباب، لهالة القداسة التي يحملها في النفوس.
ـ أما كيف يتحقق ذلك، فمردّه إلى عدة أمور:
1ـ جهل مَن يُعنون نفسه بعنوان عالم الدين، فيقدم معلومات مغلوطة إلى الآخرين.
2ـ وقد يمتلك من المعرفة شيئاً كثيراً ولكنه بلا تقوى، إذ ليس بالضرورة أن يكون كل عالم متقياً.
3ـ وقد يمتلك من المعرفة شيئاً كثيراً، ولكنه يتسم بشخصية متعصبة لذاته أو لقوميته مثلاً، فينعكس ذلك على التعاليم التي يقدمها، وعلى الصورة السلوكية التي يقتدي بها الآخرون ويقلدونها.
ـ ومن أهم عوامل التخلص من التعصب الديني عند المسلم هو الخروج من حالة الجهل إلى المعرفة، فالتعصب قرين الجهل، وثمرة من ثماره.. أما المعرفة القائمة على أصول سليمة فستقود الإنسان إلى اكتشاف أن المجال المعرفي ملئ بالآراء والأفكار المتعارضة، وأن لكلٍّ دليله وحجته التي يعتبر أنها كافية للرأي الذي كوّنه، ويجعله معذوراً أمام الله.
ـ ويندر أن تجد أمراً في حقول المعرفة الدينية دون أن تجد فيه اختلافاً بين العلماء والمفكرين.. بل لربما
أجمعوا على أمر، ثم برز بعد زمان طويل من يملك الدليل على خطئهم في ما أجمعوا عليه! لأن أكثر ما بيد الناس من المعرفة الدينية هي ظنية، ونتاج جهود بشرية قد تخطئ وقد تصيب، أما دائرة المسلّمات والضروريات الدينية فضيقة جداً.
ـ إن من حقك أن تتبنى هذا الرأي أو ذاك ما دمت مقتنعاً به عن بصيرة وفهم، كما أن من حقك أن تتناقش مع مَن يختلف معك وبأسلوب علمي، ولكن ليس من حقك أن تتعصب لرأيك، لتُسفِّه مَن سواك، أو تتجاهل ما عداه، أو أن تصبح عدوانياً بالقول أو الفعل انطلاقاً من التعصب، فلربما امتلك الآخرون الحقيقة وفقدتها أنت.. وتذكر أنك مسؤول أمام الله تعالى القائل: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)[الإسراء:36] فكيف ستكون المحاسبة في ذلك اليوم لو لم تتوقف أنت عند حد الاقتفاء للظن، بل تجاوزته إلى التعصب؟