قرأت لك - اللهمّ ارحمني ومحمّداً..ولا ترحم معنا أحداً

هكذا قال الأعرابي بكلّ عفويةٍ بعد ان (بالَ) في المسجد النبوي! وهمَّ أصحاب الرسول الكريم ان يضربوه، فمنعهم من ذلك وتعامل معه برفق قائلاً لهم (انما بُعثتم مُيسِّرين ولم تُبعثوا مُعسِّرين).العجيب في المسألة ان أصحاب الرسول همّوا بالعقوبة ما ان بدأ الرجل فعلته، وأنّ الرسول طلب منهم ان يُعرضوا عنه ويتركوه حتى يقضي حاجته!.
يبهرك هذا الموقف الانساني الذي يمتلك القدرة على الارتقاء في التعامل مع الناس حتى في مثل هذه المواقف (الصعبة)..وتتألم حين ترى ما آلت اليه أحوال قومٍ هذه هي حال معلّمهم.
حَضَرتني القصة في بلدين مختلفين خلال الأسبوعين الماضيين، وفي كلّ مرة كان الخطيب يتكلّم عن مناسبة مولد الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.لكنني افتقدتُ في كلّ مرةٍ أيضاً تلك المعاني التي تغفل عنها غالبيةٌ كبرى ممن يتصدّون لمنابر الخطابة والتعليم، خاصةً في مناسبةٍ أسبوعيةٍ فريدة يمكن ان تكون مهرجاناً للتثقيف الحضاري.ورغم ان هؤلاء يذكرون مثل تلك القصص، فانهم يَغفلون عن بعض دلالاتها الكبرى، ويطرحونها بسرعة، واحدةً تلو الأخرى على اسماع الناس، كمن يريد فقط ان يسبق الآخرين بعدد ما رواه من قصصٍ وأخبارٍ عن الرسول.
والحقيقة ان هذه القصص التي تتحدّث عن أفعال بعض الأعراب بالذات، وعن طريقة تعامل الرسول معهم تسحرُ الانسان حين يفكّر بها بطريقة معيّنة..فقد جاء الأعرابي الآخر يطلب من الرسول عطاءً.فأعطاه وسأله: (أأحسنتُ اليك)؟ فردّ الأعرابي: (لا أحسنت ولا أجملت).
حصل هذا في مجلسٍ وجد فيه صحابةٌ من المهاجرين والأنصار يُحبُّون نبيّهم ويعرفون قدره.فغضب هؤلاء وشقّ عليهم تحمّل هذه القسوة والغلظة من الأعرابي، وقام بعضهم اليه ليوبّخه ويؤنّبه.لكن موقف النبي المعلِّم كان موقفاً آخر..كان موقفَ نبيٍّ مُعلِّم..فقد طلب منهم ان يكفّوا أيديهم وألسنتهم، وأخذه من يده الى منزله وأعطاه وزاده ثم سأله مرةً أخرى: (أأحسنت اليك؟) فقال الأعرابي: (نعم فجزاك الله من أهلٍ وعشيرة خيراً).وحرص النبي على وداع الأعرابي حتى خرج! وهكذا الحال مع أعرابي ثالث كان يصلّي مع الرسول وأصحابه، واذا برجلٍ من القوم يعطس.تداخلت الأمور على الأعرابي الذي تعلّم شيئاً من دينه وأحبّ ان يُطبّقه، فقال وهو يصلّي للعاطس: (يرحمك الله).
يقول، وندعهُ يُكمل الرواية: (فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أمّياه! ما شأنكم تنظرون الي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم.فلما رأيتهم يصمتونني، لكنّي سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه.فوالله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني، ولكن قال: ان هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس انما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن).
أما القصة الرابعة والأخيرة فتتعلّق بفتى أعرابيٍ شابٍ هذه المرة، أتى النبي يستأذنه بممارسة الزنا! فلم يكن أيضاً من أصحاب الرسول الا ان زجروه ونهروه.لكن موقف المُعلِّم كان كالعادة مختلفاً.فقد حاوره في البداية من مدخلٍ عقلاني ليقنعه بخطأ ما يطلب، سائلاً اياه ان كان يُحبّ ويرضى هذا الفعل لأمّه ولابنته ولأخته ولعمّته ولخالته؟ كان طبيعياً ان يجيب الفتى بالنفي كلّ مرة.فيذكّره الرسول ان الناس لا يرضون هذا الفعل أيضاً لأمّهاتهم وبناتهم وأخواتهم وعمّاتهم وخالاتهم.
ان الناس ليسوا أشراراً بطبيعتهم، كما يتوهّم كثيرٌ ممن يفرضون أنفسهم على مواقع الفتوى والحكم على عباد الله..وفي كثيرٍ من الأحيان، لا يتطلّب اصلاحُ الخطأ سوى شيء من الحوار المنطقي الذي يمحو الغبش عن العيون، ويمسح غبار التقاليد والعادات والهوى عن الفطرة الانسانية السليمة.هذه عمليةُ تواصلٍ بشري بسيطة، وهي تُعبّر عن قمة الاحترام للانسان، وعن الثقة الأكيدة بعقله الذي يظلُّ دوماً مناط تكريمه.لكن البعض يأبى الاّ ان يلجأ الى سلاح الشدّة والقسوة، فينتكس دون ان يدري الى منهج الحيوانات في تعاملها مع بعضها.
لكن الرسول المعلّم يعرف أيضاً قوة تأثير الرمز المادّي في بعض بني البشر، لهذا نجده يضع يده على صدر الفتى الأعرابي ويدعو له بذلك الدعاء الجميل: (اللهم اغفر ذنبه، وطهّر قلبه، وحصّن فرجه)، فتتكامل قوة المنطق مع قوة الرمز، ويخرج الشاب الذي دخل منذ لحظات يطلب الاذن بممارسة الزنا وقد أصبحت هذه الفاحشة من أشدِّ الأمور كراهية على قلبه.
كثيرةٌ هي الدلالات في مثل هذه القصص، وأوّل ما يلفت النظر فيها ان التاريخ لم يذكر حتى اسم الشخص الذي كان بطل الحادثة.فالبطلُ هنا هو الانسان وكفى.والرسول المعلِّم يكتفي بهذه الصفة لكي يوليه كلّ هذا الاهتمام وكلّ تلك العناية، ويُظهر له تلك الدرجة العالية من الصبر والرفق والاحترام...
الحقيقة ان قدرة الرسول الكريم على استخراج أفضل ما في الكمون البشري من معاني الخير وقيمه، وعلى احداث النقلات النفسية والعقلية لدى الناس، هي في النهاية أهمّ ما يمكن ان يتعلّمه المرء من هذا الانسان الفريد، ومن تجربته الضخمة في حياة البشر..فرغم ان الناس يتحدّثون عن عظمة الرسول كقائد أو زوج أو معلّم أو أب أو غير ذلك من أدواره، فان قدرته الفذّة على احداث الانقلابات في نفوس البشر أفراداً وجماعات قد تكون الجانب الذي تحتاجه البشرية، ويحتاج العرب والمسلمون، الى التفكير فيه ودراسته بشكلٍ عميق.